ثمة ما يُغري في قراءة بعض الأحداث التاريخية التي ربطت التطوّرات في العراق بتلك التي رافقتها أو تلتها في لبنان، خاصة لجهة ما يُسمّى بالجيوستراتيجيا أو بالتحوّلات الإقليمية والدولية الفارضة نفسها على البلدين. ذلك أنه رغم الاختلافات الكبيرة في تركيبة المجتمعين العراقي واللبناني وفي حجم كلّ منهما، ورغم التباين في مبنى الوطنيّتين العراقية واللبنانية والنظم والنخب السياسية التي حكمت الدولتين بعد استقلالهما، فإن العديد من اللحظات الصراعية أو التسوويّة وصلت بيروت ببغداد أو خلقت ديناميّات جديدة في كلّ منهما.
وإذا كانت حقبة الخمسينات وما تخلّلها من قيام حلف بغداد ومن صراع مع الناصرية المتوسّعة جغرافياً نحو سوريا عرفت تطوّرين فصلت أشهر بينهما العام 1958، تمثّلا في الحرب الأهلية اللبنانية الخاطفة على قاعدة الخلاف حول المحورَين الإقليميين المتواجِهَين (وعلى التحاصص الطائفي الداخلي) من ناحية، والإطاحة بالعرش الملكي وقيام الجمهورية في العراق من ناحية ثانية، فإن حرب الخليج العام 1980 التالية للثورة في إيران غيّرت منظومة العلاقات الإقليمية وأثّرت عميقاً في تحوّلات الساحة السياسية اللبنانية.
التحالف الإيراني السوري ضد العراق وتأسيس حزب الله
سبب ذلك أن الاشتباك السوري
العراقي، بين البعثَين ثم بين الأسد وصدّام، الذي كانت له تبعاته في لبنان لجهة
الاغتيالات وبعض المواجهات المسلّحة، وجد في الحرب مع إيران سبيلاً ليتوسّع ولتصبح
ترجمته اللبنانية تأسيساً لحزب سيتحوّل مع الوقت الى الطرف الأقوى في المعادلة
اللبنانية والى الأداة الأكثر فعالية لطهران في المنطقة بأسرها.
فسوريا الأسد الأب تحالفت مع إيران الخمينية لسببين استراتيجيّين. الأول، لاحتواء الخصم العراقي اللدود وإنهاكه. والثاني، للتحوّل وسيطاً بين إيران المعزولة دولياً وممالك الخليج وعواصم الغرب بما يوفّر لدمشق موارد مالية وأدواراً جهد النظام السوري لانتزاعها بوصفها مستند مشروعيّته. وفي المقابل، تحالفت إيران مع سوريا لحاجتها الى دحض الدعاية القومية العربية التي شهرها العراق في مواجهة "العدو الفارسي"، وللركون الى طرف وسيط في صلاتها الإقليمية والدولية المنقطعة، وللعبور الى لبنان حيث النفوذ السوري، تصديراً للثورة الإسلامية. وأدّى كل هذا الى تعميق التعاون الإيراني السوري وترجمته تكويناً لحزب الله وتنسيقاً في ملفّات المخطوفين الغربيين في لبنان والمفاوضات السياسية والمالية لتحريرهم، ولَو أنه أدّى بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية العام 1988 الى تنافس دموي بين طهران ودمشق على إدارة "المسألة الشيعية" اللبنانية كانت حروب حركة أمل وحزب الله أبرز تجلّياته، الى أن اتّفق الطرفان على تقسيم الأدوار والركون الى سوريا سياسياً وحليفتها أمل إدارياً، والى إيران عسكرياً في المنازلة مع الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، التي تولّاها حِكراً حزبُ الله.
نهاية الحرب اللبنانية واجتياح العراق للكويت
على أن التطوّر الأبرز الذي ظهّر عمق الترابط بين الأحداث الجسام في العراق ولبنان، تمثّل في اجتياح العراق للكويت وضمّه العام 1990، بما أتاح لأطراف إقليمية ودولية بقيادة الولايات المتّحدة الأميركية حشد تحالف واسع مناهض للعراق ثم شنّ الحرب عليه تحريراً للكويت وتدميراً لبنيته العسكرية. وبدت المشاركة السورية في التحالف هذا مقرونة أو بالأحرى مشروطة ببسط نفوذ دمشق على لبنان الخارج نظرياً من حربه الأهلية، والمواجه سلمه المستجدّ بعد اتفاق الطائف عصياناً عسكرياً ذا طابع طائفيّ مسيحي. ويمكن القول إن النظام السوري حصل بالفعل على الغطاء الأميركي والسعودي المنشود مقابل انخراط قواته في التحالف الدولي لإنهاء العصيان وبسط السطوة السياسية والمخابراتية على الأراضي اللبنانية، ما عدا جنوبها الذي استمرّ الاحتلال الإسرائيلي لنصفه قائماً حتى العام 2000. وهذا سمح لسوريا بهيمنة رافقت مشاريع إعادة الإعمار الحريرية لبيروت وفرضت تعايشاً بين حزب الله المسلّح من إيران ورفيق الحريري المدعوم سعودياً، ليصبح لبنان ساحة تحكمها اعتبارات حافظ الأسد الإقليمية والداخلية حيث كان تحضير التوريث قائماً، الى أن أفضى العام 2000 الى وصول بشار الى سدّة الرئاسة بعد مصرع الوريث الفعلي باسل قبل ذلك بسنوات.
بهذا المعنى، شكّلت حرب الخليج التالية لاجتياح الكويت لحظة مفصلية في تاريخ العراق ولبنان، كما في تاريخ المنطقة إذ انطلقت بعدها مباشرة مفاوضات السلام العربية الإسرائيلية التي فاوض الأسد فيها بالنيابة عن سوريا ولبنان (ضمن وفود مشتركة) من دون نتيجة، في حين وقّعت منظمة التحرير الفلسطينية اتفاق أوسلو وعادت قيادتها الى غزة والضفة الغربية، ووقّع الأردن اتفاق وادي عربة، قبل أن تتداعى العملية برمّتها مع استمرار الاستيطان الإسرائيلي وتوسّعه في الأراضي المحتلّة ورفض تل أبيب البحث في قضايا القدس واللاجئين والسيادة الحدودية واندلاع الانتفاضة الثانية ومحاصرة ياسر عرفات في مقرّه في الضفة ثم موته مسموماً.
ولا شكّ أن اندحار الاحتلال الاسرائيل عن جنوب لبنان ربيع العام 2000، أربك القيادة السورية التي اضطرت الى البحث مع الإيرانيين عن أدوار جديدة يمكن إناطتها بحزب الله، بما يُبقي ذرائع تسلّحه قائمة. كما أن هذا الاندحار أبطل الحجج السورية التي بقي بموجبها جيش الأسد ومخابراته على انتشارهم اللبناني، وأوجد تحالفات سياسية لبنانية جديدة راحت تطالب برحيلهم وباستقلال بيروت عن حُكمهم، دون جدوى.
وكان أن أجّلت هجمات 11
أيلول/سبتمبر 2001 والمناخ الدولي الجديد الذي أوجدته الاستحقاقات السورية
اللبنانية قليلاً. فالحرب الأميركية المسماة "حرباً على الإرهاب"،
استهدفت بداية أفغانستان حيث إقامة بن لادن المسؤول عن تنظيم الهجمات، ثم استهدفت
العراق من جديد. والاستهداف الثاني، الآتي وفق عقيدة تغيير الأنظمة التي اعتنقها
محافظو واشنطن الجدد (رغم ادّعائهم استناده الى إخفاء بغداد أسلحة تدمير شامل)، أنهى
التفويض الأميركي لسوريا بإدارة الشؤون اللبنانية معتبراً حلفها مع إيران حلف شرّ.
وشكّل بالتالي خاتمة لغطاء سعودي أميركي أوجدته الحرب الأولى على العراق قبل 12
عاماً. والأرجح أن النظام السوري لم يفقه للأمر تماماً أو يُدرك مدى جدّيته إلا
حين تحوّله الى قرار أممي العام 2004 (قرار مجلس الأمن 1559)، بمبادرة فرنسية
أميركية دعت، في ما دعت إليه، الى خروج قواته من لبنان ونزع سلاح ما تبقّى من
ميليشيات فيه.
التتمة معروفة: من اغتيال الحريري العام 2005 وما تلاها من انتفاضة شعبية لبنانية ضد دمشق الى انقسام طائفي وسياسي لبناني وتصارع على السلطة عقب الانسحاب العسكري السوري، الى حرب تموز/يوليو بين حزب الله وإسرائيل العام 2006، وصولاً الى تفوّق الحزب الشيعي على خصومه المحلّيين وفرضه خياراته الأمنية وتحالفاته الخارجية ابتداءً من العام 2008.
الدور الإيراني المتعاظم
ولعل رصداً للتطورات في المنطقة خلال المرحلة تلك، بعيداً عن التفاصيل الداخلية في كل بلد على أهمّيتها القصوى، يُظهر تكرار تلاقي المصائر العراقية واللبنانية. فسقوط نظام صدّام حسين في بغداد بعد سقوط نظام الطالبان في كابول، مكّن إيران من التحرّر من احتواء عدوّين لها لتصدير نفوذها على حدودها الشرقية وعلى حدودها الغربية حيث أولويّتها الاستراتيجية. ولم يغيّر الاحتلال العسكري الأميركي للعراق ولأفغانستان الأمر، إذ نجح الإيرانيون في توسيع شبكات تحالفاتهم في البلدين واستفادوا من عمليات مقاومة الأميركيين المسلّحة وموّلوا بعضها. كما استفادوا من انهيار الدولة المركزية نتيجة سياسات "اجتثاث البعث" في العراق و"إعادة تكوين السلطة" في أفغانستان لينسجوا المزيد من العلاقات ولِيستثمروا في المسألة المذهبية المنفلتة عراقياً لأسباب عديدة مرتبطة بسرديّة مظلومية شيعية وبسفور ديموغرافيا بعد طول إخفاء، وبنظام محاصصة مستجدّ غير بعيد رغم ادّعاء الفدرالية عن النظام الطائفي اللبناني وقسمته.
بهذا تقدّمت إيران تدريجياً في الإقليم وتحوّلت الى لاعب سياسي وأمني في أفغانستان (عبر حلفائها من الهزارة)، وبنت عمقاً استراتيجياً حيوياً من طهران الى البحر المتوسّط، مروراً ببغداد ودمشق، حيث الأسد الإبن شديد الحاجة إليها، وبيروت، مستفيدة من التوزّع في ولاءات السلطات العراقية الجديدة بينها وبين الأميركيين. كما رسّخت حضورها المباشر على الحدود اللبنانية الإسرائيلية بواسطة حليفها الموثوق حزب الله، الذي جهدت لاستنساخ تجاربه اللبنانية في العراق، عبر دعم تشكيل ميليشيات شيعية وأجهزة أمن تواليها، وتكون دولةً ضمن الدولة.
ويمكن اعتبار تصاعد التوتّر المذهبي السني الشيعي في المنطقة، ترجمة للتقدّم الإيراني هذا، وللردّ السعودي المذعور عليه، ثم لصعود طرف عراقي جاهز لمقارعته بالنار. فقد انشقّ تنظيم القاعدة في الرافدين بقيادة أبي مصعب الزرقاوي عن التنظيم الأم وعن بن لادن وأيمن الظواهري ليعُدّ استهداف الشيعة العراقيين موازياً لاستهداف الأميركيين وحلفائهم في وحدات الأمن العراقية. وأدّى الأمر الى مئات الهجمات، بما فيها الانتحارية، على الأحياء والمزارات الشيعية. وردّت أجهزة الأمن العراقية والميليشيات الموالية لإيران عبر عمليات استهدفت مناطق سيطرة التنظيم الزرقاوي في ما عُرف بمنطقة "المثلّث السني" في وسط البلاد، وتصاعدت العصبيّات المذهبية التي فاقمتها تداعيات حلّ الدولة العراقية من قبل الأميركيين وتسريح الآلاف من الموظّفين والضباط من هيئاتها ومؤسساتها، وجلّهم من العرب السنة، وتظلّمهم ثم انكفاء بعضهم نحو ميليشيات عشائرية أو نحو القاعدة لحماية أنفسهم والانتقام من "نُخب" الحكم الجديد.
ولم يكن التوتّر السني الشيعي في لبنان بأقلّ من نظيره في العراق، ولَو أن لا عنف جماعياً أو اقتتالاً واسعاً تخلّله في ما عدا اجتياح حزب الله المسلّح لبيروت العام 2008 وإسقاطه الحكومة بالقوّة، ثم تحوّل الاحتقان المذهبي الى مناوشات في طرابلس بين شبّان من الأحياء السنية والعلوية الأكثر فقراً في المدينة. إلا أن التوتّر المذهبي هذا حالَ دون تشكيل حكم مركزي قادر على معالجة شؤون البلاد، وأبقى الانقسام فيها حاداً ومعطّلاً لقيام الدولة ومؤسساتها وحقّها في احتكار العنف.
الانكفاء الأميركي والثورات العربية
في العام 2011، اندلعت الثورات العربية ضد الاستبداد في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين، ثم وصلت سوريا حيث النفوذ الإيراني الواسع. ترافق الأمر مع تجاذبات وخلافات عراقية حول خطّة الرئيس الأميركي باراك أوباما لسحب قوات بلاده، وترافق أيضاً مع تحوّلات داخل خريطة القوى الجهادية في العراق وبدء صعود أبو بكر البغدادي وتوسّع المعارك بين مقاتليه وقوات الأمن العراقية والميليشيات الشيعية.
ما جرى بعد ذلك من انفلات
هائل للعنف ولقمع النظام في سوريا للمنتفضين عليه حوّلا الثورة الى كفاح مسلّح،
ومن تقدّم لقوات البغدادي في العراق تحت مسمّى "دولة العراق الإسلامية"
خلق - بموازاة المواجهة المركزية في سوريا بين النظام المدعوم إيرانياً وروسياً
والمعارضات التي حصلت على مساعدات غربية وخليجية وتركية - مواجهات بين جهاديّتين. جهادية
سنية تحلّقت حول "الدولة الإسلامية" التي تمدّدت ابتداء من العام 2013
داخل الأراضي العراقية والسورية وأعلنت قيام الخلافة بعد عام من الموصل محتلة وسط
العراق وبعض غربه وشماله وشرق سوريا وبعض شمالها وضامةً الى صفوفها
"مهاجرين" من عشرات الجنسيات، وجهادية شيعية شملت حزب الله اللبناني
وعدداً من الميليشيات العراقية (عصائب أهل الحق، وأبو الفضل العباس، والنجباء
وغيرها) وفصيلَي فاطميون الأفغاني وزينبيّون الباكستاني المقاتلَين بأمرة فيلق
القدس في الحرس الثوري الإيراني.
وتسبّب تهديد الدولة الإسلامية للحكم العراقي الجديد وللوحدات الكردية المتباينة سياسياً في العراق وسوريا إضافة الى استمرار توسّع سيطرته الترابية في البلدين الى إعلان الجهاد الكفائي الشيعي (من النجف) وتشكيل قوات الحشد الشعبي، ثم الى إعلان واشنطن الحرب عليه بعد إعدامه صحافياً أميركياً، متعاونة مع الإيرانيين والقوى الموالية لهم في العراق ومكتفية بدعم الأكراد لقتاله في سوريا، ومتخلّية بالتالي عن بلورة مقاربة سياسية للمسألة السورية بعد تراجعها عن خطّها الأحمر الكيماوي قبل ذلك بسنة. وأفسح هذا التخلّي المجال العام 2015 لروسيا بالتدخّل عسكرياً وإنقاد نظام الأسد المتهالك في دمشق.
عنت كل هذه المعطيات، ومعها عمليات القتل والتهجير والفرز الديمواغرافي المذهبي في العراق وسوريا ووصول مئات آلاف اللاجئين الى لبنان أنّ لما يجري آثاراً لن تُمحى، حتى على المدى البعيد. فإيران خلقت بنى عسكرية وثقافة ميليشاوية بأمرة حرسها الثوري وانتزعت في نفس الوقت اتفاقاً نووياً مع واشنطن مع رفع تدريجي للعقوبات عنها. وهي وصلت في تمدّدها الى اليمن حيث دعمت الانقلاب الحوثي على المسار السياسي العام 2014 استنزافاً للسعودية على حدودها الجنوبية وتحكّماً بأمن البحر الأحمر بموازاة التحكّم بأمن مضيق هرمز. والأخيرة إذ شنّت وحليفها الإماراتي حرباً شاملة على الحوثيين ابتداء من العام 2015، فشلت في حسم الصراع بعد أن فشلت في تعديل موازين القوى في لبنان وانكفأت من سوريا بفعل التدخّل الروسي. وصار رهانها الوحيد هو على التصعيد الأميركي ضد الإيرانيين بعد انتخاب دونالد ترامب رئيساً العام 2017 وانقلابه على الاتفاق النووي معهم وإعادته العقوبات الاقتصادية على طهران.
ورغم بعض المحاولات في العراق لإحداث مصالحات وطنية، إلا أن ضراوة الحرب على "الدولة الإسلامية" ثم هزيمتها ولّدتا خراباً سياسياً ومذهبياً إضافياً، نتيجة تكشّف فظائع ما ارتكبه جهاديّو "الخلافة"، ونتيجة العمليات الانتقامية التي تلت سقوطهم، ونتيجة رفض الميليشيات الشيعية التخلّي عن سلاحها وبقاء بعضها خارج المنظومة الأمنية والعسكرية العراقية التي أُعيد تركيبها لتشمل جميع القوى التي قاتلت "الخلافة". كما أن التفاوتات الاقتصادية والفساد المستشري داخل النخب السياسية والاقتصادية الجديدة (أو القديمة المتجدّدة) فاقمت من أزمة البلاد، التي استمرّت المسألة الكردية فيها من دون حلّ رسميّ نهائي بعد تراجع الأكراد عن استفتاء الاستقلال رغم كونهم ميدانياً أقرب إليه من أي شيء آخر.
وفي سوريا، تواصل انتشار الجهاديّين الشيعة بأمرة طهران، حيث بات تعرّضهم لقصف دوري إسرائيلي تُجيزه موسكو مؤشّراً على رغبة روسية في إخراجهم تدريجياً من دون التضحية بالتحالف مع إيران، ووفق أجندة باتت تركيا شريكاً في التعامل معها بعد انتشار قوّاتها في الشمال الغربي السوري، بما أبقى للمعارضات السورية المسلّحة منطقة وحيدة للحركة بعد خسارتهم جميع المناطق لصالح الروس والإيرانيين وقوّات النظام.
أما في لبنان، فقد عنت سنوات متواصلة من التأزّم السياسي والمذهبي وانتشار شبكات النهب والفساد، ومن الصراعات الإقليمية المتسبّبة بتهجير واسعٍ نحو أراضيه وبتراجع النمو الاقتصادي فيه، أنه يتّجه الى انهيار اقتصادي شامل. ذلك أن عمليات الهندسة المالية التي اعتمدها المصرف المركزي، وتيسيره اقتراض الدولة من المصارف الخاصة تعويضاً عن انعدام القدرة على الاقتراض الخارجي بعد تخطّي الدين الحدود القصوى المسموح بها وتحوّل خدمة الدين الى أكثر من ثلث الموازنة الوطنية السنوية، أدّت الى تراجع مضطرد في احتياطي المصارف والى ضغط متزايد على الليرة اللبنانية. ولم تشفع وعود المساعدات الفرنسية والدولية شريطة المباشرة بإصلاحات محدّدة في تعديل الأمور إذ ان الإرادة الإصلاحية ولو تجميلياً غابت تماماً والهدر والنهب لم يتراجعا، وتهريب أموال الى الخارج من قبل العارفين باحتمالات الانهيار تزايدت. كما جاءت العقوبات الأميركية على "كيانات" وهيئات والتمنع السعودي عن أي عون أو استثمار بذريعة هيمنة حزب الله على الكيانات المعنيّة وعلى الحياة السياسية ليُفاقما من التأزّم ومن العُزلة اللبنانية.
الموجة الثانية من الثورات والثورات المضادة
غير أنّ تطوّرات هامة بدأت تلوح في المنطقة ابتداءً من أواخر العام 2018 ثم طيلة العام 2019. فالثورات العربية التي هُزمت بين العامين 2012 و2015 نتيجة الثورات المضادة والعنف والانقلابات والتدخّلات الإيرانية والإماراتية والروسية والسعودية والتركية والسياسات الأميركية والغربية المهجوسة بقضايا الاستقرار ومنع النزوح وصعود الإسلام السياسي، تجدّدت في بلدان لم تعرف الموجة الأولى. فمن السودان الى الجزائر قامت مظاهرات ضخمة فاقت في حجمها ومثابرتها كلّ ما سبقها. ثم انضم إليها أواخر العام 2019 كلّ من العراق ولبنان إيّاهما، بما بيّن أن موجة ثانية من الثورات في طريقها لإثبات أن هزيمة الموجة الأولى ليست نهائية. وإذا كانت ثورتا السودان والجزائر وُجّهتا حكراً ضد النخب الحاكمة في البلدين، فإن ثورتَي العراق ولبنان تداخل فيهما الشأن الوطني بالشأن الإقليمي. لكنّ القمع في السودان واحتواء الثورة من قبل المجلس العسكري مدعوماً من دولة الإمارات، وتضحية الجيش بعبد العزيز بوتفليقة في الجزائر ودعوته لانتخابات عامة ولدستور جديد، أوهنت الزخم الثوري، ثم جاءت جائحة كورونا وتبعاتها الاقتصادية لتخمده وتحاصر ما تبقّى من حيويّاته. أما في العراق، فقد واجهت الميليشيات والقوى الأمنية جموع المتظاهرين بالرصاص والاغتيالات، وأرخى الكباش الأميركي الإيراني (بما في ذلك اغتيال الأميركيين لقاسم سليماني قائد فيلق القدس وردّ إيران بقصف مواقع أميركية) ثقله على ساحاتهم. وتراجع مع الوقت مدّهم ولَو أنه عبّر في بعض جوانبه عن وطنية عراقية لدى أوساط شيعية واسعة في البصرة وبغداد رافضة للهيمنة الإيرانية.
في الوقت نفسه، تعرّضت الثورة اللبنانية لضربات شديدة العنف، بدأت باستثارة الحميّة المذهبية الشيعية ضدها، ثم بتعريضها لنتائج الكارثة الاقتصادية والإفلاس المالي وضياع أموال المودعين في المصارف وانهيار سعر صرف الليرة اللبنانية، مروراً بعوارض جائحة كورونا، وصولاً الى انفجار مرفأ بيروت الذي جسّد خير تجسيد تحوّل الفساد لدى جميع أطراف الحكم الى فعل إجرامي موصوف أطاح بعشرات آلاف المواطنين قتلاً أو تهجيراً أو رحيلاً عن البلاد.
هكذا، فشلت موجة الثورات الثانية في تعديل موازين القوى في المنطقة وداخل كل بلد معنيّ، ولَو أنها ظهّرت طموحات وإرادات تغيير وثقافة سياسية مواطنية آخذة في الترسّخ في أوساط شعبية متنوّعة. ونجحت الأنظمة المستهدفة بالانتفاضات في التماسك مرحلياً، كما نجحت الأنظمة الراعية لها، في إيران والخليج، في منع تهاويها والعمل على إعادة تعويمها. كلّ ذلك بموازاة تطبيع متسارع مع إسرائيل يهدف، تماماً كما هدفت الممانعة قبله، الى حماية الاستبداد وتبريره.
ويمكن الزعم على سبيل الخلاصة، بالعودة الى لبنان والعراق، أن البلدين باتا معرّضين مع سوريا لإعادة تشكيلٍ مجتمعي ديموغرافي، وأن حدودهما مشرّعة على جملة عوامل قد تبدّل من معالمهما نتيجة الاحتلالات في سوريا، وتفكّك الدولة في لبنان والتمسّك الإيراني بالهيمنة في العراق وطموح الاستقلال الكردي. وهذا بذاته مؤشّر الى عمق الأذى الناجم عن سنوات من القمع والحروب والاجتياحات والنهب المنظّم وتوظيف الطائفية والمذهبية في مشاريع نفوذ قاتلة...
زياد ماجد