نشأت في العقدين الماضِيَين في لبنان وسوريا، ثم في بلدان عربية
أُخرى، اصطفافاتٌ سياسية حادّة تراجعت معها القدرةُ على اتّخاذ مواقف متوازنة أو
مركّبة من مجموعة قضايا وتحدّيات.
من هذه القضايا، قضية ما اصطُلِح على تسميته "ممانعةً"، وما
أثاره الأمر والممارسات المرافقة له من ردود فعل ومناهَضة لمنطقه واعتباراته.
مردّ ذلك أن المسألة الوطنية التي طَرحت نفسها بقوّة، مقرونة بالمسألة الديمقراطية، منذ أفول المدّ القومي والاشتراكي ونجاح معظم الأنظمة العربية في فرض مواجهات تُخيّر الناس بينها وبين التيارات الإسلامية المتطرّفة أو الفوضى الأهلية، أمست في لبنان وسوريا بعد العام 2000 الأولوية المطلقة عند كثرة من الناشطين السياسيين وعند قطاعات واسعة من الناس. فتحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي من جهة وتوريث حافظ الأسد السلطة لابنه من جهة ثانية، فتحا الباب في بيروت ودمشق للمطالبة الواسعة بخروج الجيش السوري المهيمن على لبنان، وبإطلاق سراح المعتقلين السياسيين في سوريا والسماح بعودة المنفيّين وإنهاء حالة الطوارئ المفروضة على البلاد منذ انقلاب البعث في آذار/مارس 1963.
ولمّا كان قمع المطالبة هذه في البلدين، كما قمع كل مطالبة سابقة بإصلاحات وبحرّيات وبحكم قانون وعدالة، تمّ باسم المقاومة والممانعة والتصدّي للمؤامرات والإمبريالية وما إلى ذلك من مفردات "عدّة النصب" التي أضاعت أعمار جيل كامل من المواطنين والمواطنات في المنطقة بأسرها، ولمّا كانت الأطراف المشاركة في القمع أو المبرّرة إياه تصدح ليل نهار باسم فلسطين وقضيّتها (حتى أنها أطلقت في سوريا اسم فلسطين على واحدٍ من أفظع السجون وأكثرها توحشّاً)، وُضع الكفاح من أجل فلسطين وكأنه في موقع التضاد مع مسائل التحرّر من الاستبداد أو المطالبة بالتحوّل الديمقراطي. وزاد الطين بلّة أن إيران بإنفاقها المالي واستراتيجيتها الإعلامية خلال عقدين من الزمن، وباعتمادها على حزب الله في بناء التحالفات، تحوّلت الى مرجع الممانعة، فصارت تُبرِز كلَّ اشتباك سياسي معها أو مع حلفائها بوصفه اشتباكاً مع ما تدّعيه من نهج تصدٍّ لإسرائيل ولأنظمة عربية تطبيعية.
وأثّر الأمر بطبيعة الحال على الكثير من الحملات السياسية والتحالفات والمفاهيم
والأولويات، وجعل البعض يجاهر بمواقف تُساوي بين إسرائيل والممانعة، أو ترى في
الثانية سوءاً وخطراً يفوقان سوء الأولى وخطرها المعروف. ثم جاء توالي الاغتيالات
السياسية في لبنان ضد خصوم النظام السوري وحزب الله العام 2005، ومن بعده انفجار
الثورة السورية العام 2011 وتعرّض الشعب السوري لفظائع ومجازر ارتكبها الأسد الابن
بدعم من إيران وحزب الله، ليظَهّر "الممانعة" بوصفها منظومة قتل وتعذيب
قبل أي شيء آخر.
ومع صمت الكثير من الناشطين في حملات التضامن مع فلسطين ومقاطعة إسرائيل عن الاغتيالات والمجازر تلك، أو دفاع بعضهم عن الأسد وإيران والحزب الشيعي اللبناني، بات الطلاق السياسي كاملاً وعنيفاً بين "مُعسكَرَين": معسكر الممانعة ومعسكر مناهضتها، من دون أن يعني الأمر انسجاماً تاماً بين المنضوين في كلٍّ منهما، لا سيّما بين أولئك المنضوين في المعسكر الثاني. ذلك أن تنوّع خلفيّاتهم وتجاربهم وأصواتهم أبقى على تعدّد الأصوات في صفوفهم، بما فيها تلك المنتقدة من ينادي - بذريعة رفض الممانعة - بالتطبيع مع إسرائيل أو يلتصق بأنظمة عربية مناوئة لإيران، لكنها مناوئة أيضاً للديمقراطية وحقوق الناس وجاهزة لكل أنواع التحالفات والصفقات لحماية سلطانها.
يقودنا هذا الى القول، في ظل تصاعد الحديث عن التطبيع ومقاومته اليوم وبُعَيد هزيمة الثورات العربية ونجاة معظم أنظمة القمع والفساد من جهة، ومواصلة إسرائيل سياسات الاستيطان والسطو على الأراضي الفلسطينية من جهة ثانية، إن البحث في تأسيس تكامل جديد بين معركتي الديمقراطية والتحرّر من الاحتلال صار أكثر إلحاحاً من أي وقتٍ مضى.
فمن كان يظنّ الالتصاق بالقضية الفلسطينية ومعركتها التحرّرية بديلاً
كافياً عن الخوض في المسائل الوطنية والديمقراطية في الدول العربية، له في مآل "الممانعة"
وسكاكينها وبراميلها المتفجّرة النموذج الفاقع عن تهافت مقولته وانعدام أفقها
وأخلاقها.
ومن كان في المقابل يعدّ الخلاص من تبعات القضية الفلسطينية وتوظيفها من قِبل أنظمة وتيارات في معاركها مع خصومها لتبرير القتل والاستبداد وابتزاز المطالبين بحرّيات وكرامات مقدّمةً لتحوّل ديمقراطي، له في مصر ثم في أنظمة الخليج والمغرب نماذج عن انعدام العلاقة بين "الخلاص" المُفترَض وبين احترام الحرّيات وبناء المؤسسات الديمقراطية. أكثر من ذلك، ليست صدفة أن معظم المطبّعين مع إسرائيل اليوم هم أوّل المطبّعين مع النظام السوري "الممانع" بعد برهة قطيعة أو تنافر.
وهذا كلّه يعني ضرورة أن يُعاد تعريف القضية الفلسطينية عربياً مع ما يتطلّبه الأمر من اعتبار التوق الفلسطيني للتحرّر من الاحتلال الاسرائيلي مرادفاً لتوق الشعوب العربية للتحرر من أنظمة الاستبداد، والتمنّع عن النظر الى المسألتين كمسألتين متنابذتين أو خاضعتين لترتيب أولويات هرمية.
ولعلّه يُفيد التذكير أن حصانة منتهكي القانون الدولي الاسرائيليين منذ العام 1948 يسّرت حصانة منتهكي القانون العرب، وهمجيّة الأخيرين في التنكيل بشعوبهم سهّلت على إسرائيل مواصلة ارتكاب جرائمها. وإن كان المعنى المبتذل لـ"مركزية القضية الفلسطينية" قد استُهلك وحوّلته أنظمة وتيارات الى عبء ثقيل على قضية الديمقراطية، فإن الملحّ هو التعامل معه وفق أفق تحرّري جديد بمستويات مختلفة، ووفق قيم وممارسات متلازمة.
وهذا يوصلنا الى القول بانعدام مصداقية من يخوض معارك من أجل فلسطين، وهو قابع في موقع ملتبس أو موالٍ لأنظمةٍ "ممانعة". والأمر إياه يسري على من يرفض هذه الأنظمة، فيوالي أنظمة تطبيعية (وقمعية) أو يصمت عنها وعن تحويلها الاحتلال الإسرائيلي الى أمر مقبول أو "طبيعي". وهذا لا يعني أن على الجميع خوض كلّ المعارك دفعة واحدة، بل جعلها على الأقل غير متنافرة، وقادرة على التكامل في عالم تتقاطع فيه كفاحات شعوب وقضايا وتتخطّى الحواجز الثقافية والقومية واللغوية والدينية المتقادمة.
الكفاح الثقافي والسياسي من أجل فلسطين يمكنه أن يتقاطع إذاً مع الكفاح ضد الأنظمة المستبدة وجرائمها. وحملات مقاطعة إسرائيل، على نحو ما جرى من مقاطعة لجنوب إفريقيا أيام التمييز العنصري، واجبة، مثلها مثل مواجهة التطبيع مع أنظمة الجريمة، وفي مقدّمها النظام السوري "الممانع"، على أساس رفض حصانة مرتكبي الفظائع التي تشجّع القتلة، كلّ القتلة، على ارتكاب جرائمهم والاطمئنان الى نجاتهم من عواقبها.
التوازن والموقف المركّب غير القابل لتبسيطيّات أو لتناقضات مفتعلة، هو بالتالي ما يمكن الركون إليه وتجديده وإبقاؤه مواكباً لما جرى ويجري من تبدّلات ومن أحداث جسام في حياتنا، فلسطينياً وعربياً ودولياً...
زياد ماجد
مقال منشور في ملحق القدس العربي