Sunday, December 5, 2021

غَزْل البنات

ثمة في هذه الصورة[1] ما يصيب المحدّق بتفاصيلها بالذهول. ليس فقط لفرط التناقض بين الأبنية المحطّمة والخراب المعمّم وبين لون "غَزْل البنات" الزهريّ الفاقع الحيّ؛ وليس فقط لغرابة مرور بائعٍ جوّال في موقع لا يبدو مسكوناً بغير أطياف الغائبين الذين كانت لهم يوماً حياةٌ في البيوت المتساقطة.

ما يُسبّب الذهول أكثر، هو أن صورةً تبدو عناصرها قليلةً والسكون الفظيع يخيّم عليها تنقلب إذْ يُدَقَّق فيها الى مساحةٍ كثيفةِ التفاصيل والاحتمالات. كأنها نسخة "نيغاتيف" ما زالت في طور التحولّ أو الاكتمال.

ففيها عماراتٌ انحنى بعضها تحت ثقل القصف والغارات، فيما تذرّرت جدران البعض الآخر وانكشف داخله على عدم. ولم يبقَ بين مئات الأبواب التي كانت هناك سوى باب وحيد معلّق طرفُه في طابق أخير، كان مخرجاً الى شرفة مطلّة على الطريق الصاعد على يسار الصورة، الفارغ تماماً، والمماثل نصيبُ أبنيته من التهالك لما نرى في الواجهة أو في الصدر. السماء فوق الخراب على حَمارٍ خفيف يترك لنا أن نقرّر ما إذا كان إعلانَ بزوغِ فجر أو انطفاءِ نهار

عناصر متفرّقة خَفِرة الحضور في الصورة تشير الى نُتف حياة ما زالت قائمة وتظهر تباعاً. فثمّة أشجار نجت من الصواريخ والعطش. تحت واحدةٍ تجلس امرأةٌ وولدان، ويقابلهم على مقلب الشارع الآخر رجل وحيد. لا أحد يبدو عليه النشاط أو التوتّر أو التوثّب للقيام بشيء. كأن صمتاً مألوفاً يلفّهم أو يشدّهم الى المكان. يجلسون هنا ويصمتون. لا شيءَ في أي حالٍ ليُقال للغائبين في أوّل النهار أو في آخره. ولا حاجة للانتظار. ولا حاجة حتى للجزم بأننا في آخر النهار. رجلان يظهرُ قسمٌ منهما يبدوان على درّاجتين هوائيّتين يُفترض أنهما تسيران بسرعة، لكنهما في الحقيقة لا يتقدّمان. ليس لأن لا حركة في الصورة. بل لأنه لا حاجة لهما بالتقدّم والإسراع. فمشهد الخراب إياه، والغياب إياه، سيمتدّ مهما تقدّما أو أسرعا. سيرافقهما في كل الصور اللاحقة، فيبدوان على الدوام أمام حطامٍ وانحناءات بيوتٍ وثقل غياب.

في قلب الصورة الخافق أو في بقعة ضوئها بائع البهجة مرافقاً درّاجته المحمّلة "غزلَ بناتٍ". يبدو متوجّهاً صوب الحطام بخطىً متثاقلة. أو يبدو محدّقاً مثلنا فيه. كأنه لِوَهلة ينظر الى نفس الصورة التي أمامنا والى نفس التفاصيل المبعثرة ونُتف الحياة الصامتة ويُذهَل مثلنا. لا تشي وضعيّته أو حركته بأنه ينادي على بضاعته، أو أنه في عجلة من أمره. ولا ما يدلّنا في الإيقاع على أن أطفالاً سيخرجون فجأة من مكان لا نراه ليتحلّقوا حوله ويحوّلوا المكان الى كرنفال لالتهام السُكّر الملوّن. مع ذلك، لا ينسحب البائع ولا يسُرّع خطاه ولا يعود أدراجه.

لعلّه يعدّ المرأة والولدين والرجل الصامت زبائن محتملين. ولعلّهم بالفعل هناك يجلسون بهدوء فقط لمعرفتهم بمروره. أو ربما هو عائد لحظة الغروب الى الحطام حيث بيته، فيجلس مع الجالسين. وقد يكون ربّ أسرتهم. 

لكنّه في أي حال لم يبِع الفرح لأطفال كثر. فأكياسه ما زالت مليئة. ربما سيخبّئها في مكان ما ليبيعها لاحقاً. أو بالأحرى يتركها في مكان ظاهر، إذ لا جدران ولا أبواب ولا مخابئ، فتبقى برّاقةً عن بُعد وكأنها إعلانٌ أو زينةٌ أو احتمالُ بيعٍ مؤجّل.

صورةٌ للفقدان

يثير التمعّن في هذه الصورة أسئلة كثيرة حول وظيفة التصوير في لحظات كهذه، أو حول الفارق بين تحويل مشهد يبدو لبُرهةٍ عادياً الى لوحة فنّية، أو الى وثيقة، أو حول مؤدّى اجتزاء مكان عبر اعتبار موضعٍ محدّدٍ فيه مُكتفيَ المعاني والسياقات بمعزل عمّا يُحيط به.

والحقّ أن الأسئلة هذه جميعها مشروعة، ولا تصادم بين الإجابات المختلفة عنها. فقوّة هذه الصورة هي في لحظة التقاطها، في توثيقها لحياة ما، لخراب ما، في الحسّ الفنّي الذي جعل الاختيار يقع على المشهد الذي نحدّق جميعنا فيه، وفي اجتزاء هذه المساحة المشهديّة المُنتقاة لتضمينها في قصّةٍ هي قصّة بائع "غزل البنات" ودرّاجته الهوائية وحطام الأبنية والذكريات ونُتف الحياة وحضور الغياب الطاغي.

ثم أن هذه الصورة تذكّر بالعلاقة بين اللون والعَيش، بين تخيّل الطعم وذوبان السكّر وما رافقه في ماضٍ سحيق أو قريبٍ أو في مراقبةٍ لأطفال وهم يتحلّقون حول البائع أمام مدرسةٍ أو على كورنيشٍ بحري أو في حديقةٍ عامة أو في زاويةِ شارع. يتنازعون بأياديهم الطرّية "غيوماً" صغيرة من باقة الحلوى الزهريّة اللون، ويبتلعونها بثوانٍ مخلّفين آثاراً زهريّة بدورها على أسنانهم الصغيرة التي تكشفها الابتسامات. 

أبعد من ذلك، في الصورة ما يفرض البحث عمّا لا تُظهره، عن الغياب أو الفقدان أو عن الوجوه الضائعة. تلك التي كانت تُطلّ من الشبابيك المخلّعة في حطام الأبنية، أو تبان على الشرفات المتهاوية إذ يُنشر الغسيل، أو تعلو ضحكاتها لطُرفةٍ رُوِيت أو لخبرٍ سار.

وفي الصورة أيضاً ما يفرض البحث عن كثرةِ ألوان تحملها عادةً فساتين بنات وقمصان صبيان يركضون لملاقاة بائعٍ جوّال تمارس حلواه الموضّبة في أكياس غوايتها وتجذب نحوها الأصابع والأفواه.

وفي الصورة أخيراً ما يفرض تخيّل الأصوات التي كان انبعاثها بديهياً في موقعٍ شبيه. أصوات زمامير سيّارات وضوضاء موسيقى ومناداة باعةٍ ووقع أقدام سيرٍ أو ركضٍ أو كلمات أو رفع آذان مغرب أو قرقعة طناجر تَعِد البطون بعشاء وكمشة بهارات وحبّ.

لكن هل سيعني كلّ ما ذُكِر شيئاً لمن سيجد هذه الصورة، فيقع على ما كان بيته في واحد من الطوابق المطحونة أو المفتوحة على الريح من كلّ صوب؟ وهل سيتذكّر طفلٌ عبَر البحر والغرق وطعم الملح والدموع مذاق السُكّر الزهري إذ يذوب فوق لِسانه؟ وهل ستقوى سيدةٌ نزحت مع أطفالها أن تحدّق في الشارع المفضي الى بيتهم حيث صرعَ القصفُ زوجها؟

أسئلةٌ كثيرة لا ضرورة ربما للإجابة عنها. فالصورةُ، كل صورة، ولّادة معاني وحمّالة التباسات واحتمالاتٍ لا حاجة لأي يقين في التعامل معها. وهذه الصورة، فوق ذلك، تضيف الى أسئلتنا ابتسامةً ودمعتين...


[1] الصورة مأخوذة في مدينة حمص في سوريا، وهي للمصوّرة حسّانة كنج، وقد نشرتها على وسائل التواصل الاجتماعي.

زياد ماجد

مقال منشور في ملحق القدس العربي