كثُرت في التصريحات والمقالات والمواقف المتضاربة لبنانياً في الآونة الأخيرة جملة مقولات بدت وكأنّها بديهية، في حين أنها شديدة التهافت.
من هذه المقولات تلك المرتبطة
بالموقف السعودي الأخير من لبنان، شبه المُعمّم خليجياً، بعد نشر تصريحات قديمة
لمقدّم برامج مسابقاتٍ صار وزيراً في حكومةِ بلدٍ أُفلِس وما زال فيه في العام
2021 "وزارة إعلام"!
والموقف السعودي، بحسب شاتميه
ومتّهميه بالتآمر كما وِفق المُحتفين به والمؤيّدين له يُصوَّر وكأنه صدىً لموقف
أميركي أو عقاباً لرجل قال كلاماً جريئاً بالنسبة للبعض أو مسيئاً بالنسبة للبعض
الآخر حول اليمن.
على أن التدقيق في الأمر وبعض
حيثيّاته وتوقيته يُبيّن أن في التشخيص المذكور بشقّيه بلادةً، وأن ما قاله مدّاح
النظام السعودي سابقاً والنظام السوري راهناً لم يكن غير الذريعة السعودية المُنتظرة
لإفهام الفرنسيين والأميركيين تحديداً أن الرياض لن تكون دفتر شيكات لتمويل مشاريع
في لبنان، طالما أن حزب الله مسيطر عليه بموافقة ضمنية فرنسية وبمعارضة خجولة
أميركية ترتبط بأولويات واشنطن في المنطقة، وفي مقدّمها الاتفاق النووي وتخفيض
التوتر مع إيران. وجاء "تسريب" كلام القرداحي في لحظة شنّ فيها
الحوثيّون هجوماً واسعاً على مأرب، عدّه السعوديون مبارَكاً إيرانياً رغم بدء
التفاوض الإيراني السعودي، فردّوا ليقولوا إن لا انفتاح على بيروت، ولو أوصى به "الغربيّون"،
من دون تراجع إيراني عن دعم الحوثيّين في اليمن.
والقرداحي بهذا المعنى، بمعزل
عمّا قاله وعن تبعات القول، لا ناقة له لا في فعل البطولة المنسوب إليه انتقاداً لسياسات
السعودية التي كان أصلاً نجم ترفيه في إحدى قنواتها، ولا في التمسّك بكلامه
والتمنّع عن الاعتذار أو الاستقالة، وهما أمران باتا محلّياً في عُهدة حزب الله
وحساباته.
يبقى أنه من الضروري القول بمعزل عمّا ورد، أن في الموقف السعودي عدوانيةً تجاه اللبنانيّين وطريقة تعامل فوقية مع بلدهم المُنهَك، وأن في مجاراة البحرين والإمارات للأمر تناقضاً شنيعاً مع سياسة الانفتاح التي يعتمدانها على نظام الأسد حليف حزب الله، وفاتح سوريا أمام الهيمنة الإيرانية التي لا يغدو اعتبار انفتاحهما (وسواهما) مقدّمةً لتحجيمها سوى وهم وجهل بموازين القوى داخل سوريا وفي جوارها.
من المقولات أيضاً واحدةٌ معطوفةٌ
على سابقتها، وتخصّ اليمن. ذلك أن أكثر المعلّقين والسياسيّين اللبنانيّين يصوّرون
الوضع اليمني بوصفه مجرّد صراع سعودي إيراني، لا أسباب يمنيّة داخلية له أو تكفي لقيام
عنفه وانفلاته. والحقّ أن الحرب في اليمن هي بالدرجة الأولى أهلية، تتناحر فيها
أطراف ذات عداوات قديمة أو مستجدّة، كان لفشل مسار الانتقال السياسي بعد سقوط علي
عبد الله صالح أن دفعها نحو الاقتتال والسعي للهيمنة، ثم للاستقواء برعاة خارجيّين
لكلّ منهم اعتبارات استراتيجية توجب تدخّله. فالحوثيون ليسوا صنيعة إيرانية، بل هم
وحلفاؤهم أصحاب تمثيل قبلي ومناطقي ومذهبي شمالي واسع، على صدام مع الحكومة
المركزية في صنعاء منذ عقدين من الزمن. وعلاقتهم بإيران علاقة استفادة متبادلة إذ توظّفهم
الأخيرة لاستنزاف السعوديّين وللتحكّم بالملاحة (أو عرقلتها) على مدخل البحر
الأحمر الجنوبي، في حين أنهم يستفيدون من تقنيّات عسكرية وأموال توفّرها لهم طهران
ليبسطوا نفوذاً على مناطق واسعة ويوظّفوا ذلك وضعاً لليد على موارد تعيلهم على السطوة
السياسية والانتقام من التهميش السالف. وخصوم الحوثيّين، تحالف غير وطيد بين
جنوبيّين ينحون للانفصال بمباركة إماراتية (وبمحاولات استفادة عُمانية) من جهة، ووجهاء
قبائل وشرائح مدينية من مختلف المناطق، يدافعون عن مصالح أو يسعون لحماية مشاركتهم
في حكم بلد مترنّح من جهة ثانية. وبين ظهرانَي التحالف هذا، تنشط خلايا للقاعدة
وأخرى لداعش تخرّب عليه سيطرته في الجنوب، في حين تتدخّل السعودية بثقلها العسكري
لدعمه في وسط البلاد وفي موانئها وبعض مواقعها الحسّاسة من دون نجاح عسكري يوازي
كثافة نيرانها. ولا شك أن الحوثيّين المدعومين إيرانياً وخصومَهم، كما ركنَي التحالف
(المتنافسَين) السعودية والإمارات، مسؤولون عن جرائم حرب وعن قصف وعمليات لا تميّز
في الكثير من الأحيان بين المدنيّين والأهداف العسكرية.
وليس مؤكّداً أن وقف النيران السعودية والتدخّلات الإيرانية على ضرورته سيُفضي الى نهاية الحرب أو الى تبديلات كبرى في موازين قواها. ما قد ينهي القتال ويوفّر حلاً سياسياً (مركزيّاً أو فدرالياً أو تقسيمياً) هو حظر الذخائر ومنع المزيد من الأسلحة من دخول اليمن والضغط للعودة الى مسار التفاوض الجدي بين القوى المختلفة. وهذا ما لا يبدو متاحاً راهناً في أي حال.
المقولة الثالثة والأخيرة
هنا، ترتبط بحزب الله، وبما يردّده بعض خصومه أو بعض من يعدّون أنفسهم من قوى
الثورة والانتفاضة الشعبية. ذلك أن بينهم من يراه مجرّد طرف من أطراف السلطة
العديدة، يتساوى وإياها في المسؤولية عن انهيار البلد ومؤسساته واقتصاده. وفي
المقابل، بينهم أيضاً من يرى فيه العلّة الوحيدة في لبنان التي يكفي بتحييدها حلّ
المعضلات جميعها واستعادة عهد من الازدهار يكثر تناقل الفيديوهات حوله بوصفه
"زمناً جميلاً ضائعاً" أطاح به الحزب وثقافته وراعيه الإيراني.
الحكي عن حزب الله هو بهذا
المعنى، في معظم أوجهه المتناقضة تبسيطي، لأسباب بعضها طائفي، وبعضها الآخر تمييع لوضوحٍ
وادّعاء اعتمادِ سويّةٍ تجاه قوى هي في الأساس غير متساوية.
أما الحزب، فهو لقوّته وعنفه
وافتتانه بهما، ولسرديّة مظلوميّة قومه ثم سرديّات عزّتهم وانتصاراتهم، ولسِعة
جمهوره داخلياً وإغداق المال والسلاح عليه خارجياً، ولفرادته العقائدية بين القوى
الطائفية والمذهبية اللبنانية وتكوينه أكثر من جيل وفق موجباتها، ولكونه مُنتَجاً
مركّباً للنظام اللبناني واختلالاته وحربه الأهلية ولتصدير الثورة الإيرانية
وإيديولوجيتها بتواطؤ سوري إليه، ثم لتحوّله الى القوّة المهيمنة على البلد بعد
خروج النظام السوري منه وتنقّله الدائم بين منطق القبول بقواعد اللعبة الطائفية
وتوازناتها ومنطق الخروج عليها بالسلاح لِلَيّ ذراعها وتطويعها، ولكونه فوق ذلك
قاتل احتلال إسرائيل لجنوب لبنان بكفاءة وعادى ويُعادي في خطابه أنظمة عربية فاسدة
ومكروهة في أوساط شعبية وثقافية في أكثر من بلد وقارة (حتى ولو استمات دفاعاً في
الوقت ذاته عن نظام الأسد الأكثر فساداً وتوحّشاً من بينها)، فهو لهذه الأسباب
جميعها، قوّة مركّبة، يُغفل المتعاملون معها هوىً أو خشيةً أو بُغضاً كثرةً من
جوانبها، ويصعب حصر تعريف المشكلة معها أو اعتبار أن ثمة حلّاً في لبنان بوجودها
وفق تركيبتها وسياساتها وعلاقاتها وثقافتها الراهنة.
وهذا بالطبع لا يُعفي الفاسدين من القوى الطائفية جميعها الموالية للحزب والمعادية له، والمصرفيين وحاكمهم، كما الخيارات المالية والسياسات الاقتصادية المُعتمدة منذ عقود من المسؤولية عن الانهيار الحاصل. ففي أدائها ما أكمل فعل الهدم الذي فعلته الحروب والاجتياحات ثم الأسلحة والولاءات العابرة للحدود ولمصالح البلد الصغير. لكن مساواتها بالحزب المدجّج بالسلاح أمر لا يستوي في علم السياسة أو في ممارستها...
مقولات متهافتة عديدة إذاً هي
تلك المجترّة في الخطاب السياسي اللبناني السائد حالياً. ولا يبدو أن في
الاصطفافات وبؤس الانهيارات وعمقها ما سيلجمها أو يسمح بتعديل مواقف معتنقيها
ومقارباتهم...
زياد ماجد
مقال منشور في ملحق القدس العربي