رغم الحجر الصحي المفروض في لبنان بسبب "كورونا"، عاد المتظاهرون
الى الشوارع مستأنفين انتفاضتهم بعد أسابيع من تجميدها، في ظرفٍ تزايدت فيه
الصعوبات والتعقيدات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
فالليرة واصلت تراجعها أمام العملات الأجنبية ومعها القدرة الشرائية
لأكثرية اللبنانيين، والمصارف استمرّت في سياسة إذلال المودعين المحجوزة أموالهم
لديها، والعديد من المؤسسات والشركات سرّحت عمّالاً وموظّفين، توسّعت بهم دائرة
البطالة والفقر. كل هذا وسط تراشقٍ بالاتهامات بين المسؤولين، سياسيّين وماليّين، واستنفار
وسائل إعلامية للدفاع عن بعضهم في مواجهة البعض الآخر.
طرابلس والعودة الى الشارع
ليس مفاجئاً إذاً، والحال على هذا النحو من الانهيار، نتيجة الفساد والهدر
وسوء الإدارة والإنفاق الزبائني والسياسات المالية والخيارات الاقتصادية، أن ينفذ صبر
الناس معدومي الدخل أو الفاقدين له، وأن يكسروا الحجر الصحي ويستأنفوا التظاهر
والاعتصام وقطع الطرقات ولَو تعرّضوا للخطر "الكوروني". وليس مفاجئاً كذلك
أن يحصل الاستئناف هذا في طرابلس، ثاني أكبر المدن اللبنانية، حيث توسُّعُ أحزمة
الفقر لم يتوقّف على مدى العقود الماضية، رغم بروز زعامات جديدة فيها يملك أصحابها
ثروات من الأكبر في البلد.
فعاصمة الشمال تعاني منذ نهاية الحرب الأهلية (التي عوملت خلالها من قبل
نظام الأسد وكأنها مدينة سورية لجهة فظاعة الإجرام والقمع ضد أكثرية سكّانها) من
سياسات تهميش واستنزاف وتحريض جعلها عرضة للعديد من الأزمات والتوتّرات الأمنية.
فهي صُوّرت بوصفها مدينة الأصولية السنيّة، وأطلق البعض عليها تسمية
"قندهار لبنان"، وجرى التلاعب والتنكيل المخابراتي بشريحة من أبناء أحيائها
الشعبية على نحو أدّى أواخر تسعينات القرن الماضي الى أحداث الضنية، والى توقيفات ظالمة
مستمرّة بلا محاكمات حتى الآن.
وبعد اغتيال رفيق الحريري ومشاركة أهلها الواسعة في انتفاضة الاستقلال ضد
النظام السوري في شباط/فبراير وآذار/مارس 2005، صدّر الأخير الى مخيم نهر البارد
للّاجئين الفلسطينيين السجين السابق لديه شاكر العبسي وعناصر "فتح الإسلام"،
فدفعت المدينة ومخيّمها في معارك هؤلاء مع الجيش اللبناني الكلفة باهظةً تدميراً
وقتلاً وتهجيرا.
ثم تجدّد نزيفها في العامين 2008 و2009 واستُعيدت جراح الحرب ومعها خطوط
التماس بين جبل محسن والقبة والتبانة، وصارت المدينة حقل تصفية حسابات ومنطقة تفجير
أمني متنقّل يموّله معظم المستثمرين مذهبياً وسياسياً وانتخابياً في مناطقها الفقيرة.
أما بعد انطلاق الثورة السورية العام 2011 وتحوّلها الى ملجأ لعشرات ألوف
اللاجئين ومئات الجرحى، فقد صار التوتير في المدينة صدىً لإيقاع الصراع في سوريا،
إن بسبب التأثير المباشر للتطوّرات السورية على نسيجها الاجتماعي ومواضع القتال
القديمة – المتجدّدة فيها، أو نتيجة ما بدا تواطؤاً على حصر النزاعات اللبنانية
الناجمة عن الوضع الإقليمي في بعض شوارعها، حيث يبقى أزيز الرصاص
ووقع العبوات الناسفة بعيدَين عن مسامع المستثمرين والسيّاح المعنيّين حصراً
بالعاصمة بيروت ومحيطها، وحيث لا يصرف أي اشتباكٍ حزبَ الله عن تركيزه على
المشاركة في المقتلة السورية.
ولم تتراجع
معاناة المدينة بعد العام 2016، إذ أصابتها الأزمات الاقتصادية وانكماش النموّ
وتزايد البطالة، ولم يكن بالتالي غريباً أن تتصدّر ساحتها، ساحة النور، الانتفاضة
الشعبية ابتداءً من تشرين الأول/أكتوبر 2019، وأن تعود اليوم لتستأنف الانتفاضة
وتتعرّض لقسوة الأجهزة الامنية والعسكرية وتُرتكب بحقّ متظاهريها جرائم أودت بحياة
أحد شبّانها وأصابت منهم العشرات.
تحدّيات
الانتفاضة اليوم وغداً
لكلّ ما
ذُكر، ولأن طرابلس بالتحديد هي مبعث التمرّد وهي من جدّدت التظاهر والاعتصام الذي
عاد لينتشر في باقي المحافظات اللبنانية، تبدو الانتفاضة أمام تعقيدات وتحدّيات
جديدة. فالشحن الطائفي ضد عاصمة الشمال وبعض الردود عليه (الشبيهة به) يمكن أن
يُفضيا الى توتّرات تُفيد السلطة وأجهزتها الساعية الى إخراج الانتفاضة من سياقها
السياسي والاجتماعي الوطني وإظهارها تحرّكاً مذهبياً يُديره طرف أُخرِج من السلطة
(التيار الحريري)، أو حالات شغب تعطّل الحياة في محيطها وتتسبّب بمخاطر صحّية.
في
المقابل، يمكن للغضب، إذ يبدو في زخم الاحتجاجات والاعتصامات الذي بدأت الانتفاضة
تستعيده محصوراً بالمصارف والبنك المركزيّ، أن يحدّ رغم مشروعيّته وضرورته من أفق المواجهة
مع السلطة السياسية، وأن يستثمر فيه طرفٌ (تحالف حزب الله والتيار العوني) لإعفائه
من مسؤولياته وحصرها بالآخرين (من شركائه وخصومه).
بهذا
المعنى، تتمحور تحدّيات الانتفاضة راهناً، كما في المستقبل القريب، حول القدرة على
العودة الى الشارع في جميع المناطق بخطاباتٍ وشعارات تتخطّى المظلوميّات المحلية
والمذهبية وتُصيب السلطة بنظامها الزبائني وفسادها وتناهُبها المال العام من جهة،
وتُتبِع استهداف المصارف وأرباحها وسياسات حاكم مصرف لبنان والحكومات المُتعاقبة
منذ نهاية الحرب باستهداف جميع القوى التي تشاركت في الحكم في السنوات الأخيرة وتسبّبت
تحالفات بعضها الإقليمية المفروضة على اللبنانيين بعقوبات ومقاطعةٍ سرّعت من وتيرة
الانهيار المالي والاقتصادي الذي نعيشه.
على أن
هذا وذاك من المحاذير أو التحدّيات المذكورة لم يعودا لِيستقيما من دون طرح المجموعات
والقوى المتحرّكة في سياق الانتفاضة لرؤاها البديلة، العامة والتفصيلية التقنية، للتعامل
أولاً مع الإفلاس المالي والانهيار الاقتصادي وشروط الخروج منه أو تقليص أضراره
(بما في ذلك تحديد الموقف من العلاقة المحتملة بصندوق النقد الدولي المعروفة سياساته
ووصفاته "العلاجية" أو بغيره من المؤسسات والمنظومات الدولية)، وللتعامل
ثانياً مع قضايا الإصلاح المؤسساتي والتغيير السياسي واللامركزية الإدارية وسُبل
تحقيق استقلالية القضاء كضمانة أساسية لمواجهة الهدر والفساد اللذين التهما جزءاً
كبيراً من موازنات الدولة في الحقبة المنصرمة.
ولا شكّ
أن في الانتفاضة كثرٌ يقدرون على تقديم مشاريع متكاملة من هذا النوع، والعاجل
اليوم هو في تكتّلهم وتشكيلهم جسماً تنسيقياً يطرح الخطط الإنقاذية والتغييرية ويُجنّب
التحرّكات الشعبية مخاطر الانزلاقات السياسية والطائفية والصدامات العشوائية التي
لن تستفيد منها سوى بعض أطراف السلطة لتصفّي حساباتها مع الأطراف الباقية...
زياد ماجد
مقال منشور في ملحق "القدس العربي"