مرّت قبل أيام الذكرى العشرون لتحرير جنوب لبنان من
الاحتلال الإسرائيلي. وبدا مرورها باهتاً، رغم محاولات حزب الله أحياءها احتفالياً
والتذكير بفضله في تحقّق شروطها. وبُهتانها لم يتأتّ من أوضاع البلد الراهنة
وما فيها من أزمات اقتصادية ومالية غير مسبوقة في حدّتها، أو من الحجر الذي تفرضه
جائحة كورونا، أو من التأزّم السياسي والمحاولات الشعبية لاستئناف التجمّع
والتظاهر استكمالاً لانتفاضة 17 تشرين/أكتوبر 2019. بل هو تأتّى بشكل خاص من قناعة
ترسّخت مع الوقت عند قسم كبير من اللبنانيين مفادها أن إنجاز التحرير لم يُثمر
إعادة بناءٍ لدولة، وأنه وُضع في مواجهة إنجازات أُخرى من موقع النقيض فجرى تسليعه
سياسياً ليُجيَّر لهذا الطرف أو ضد ذاك وفق أجندة حزب الله وتحالفاته أو خصوماته
الإقليمية والمحلّية.
ولعلّ نقطة التحوّل في علاقة هؤلاء اللبنانيين بالإنجاز المذكور حدثت في العام 2005، حين أضافوا إليه إنجازاً آخر تمثّل بإخراج جيش النظام السوري من لبنان عقب اغتيال رفيق الحريري. ذلك أن حزب الله اندفع وقتها لتهديدهم، ثم للحلول مكان النظام السوري نفسه في هيمنته على البلاد أمنياً وفرضاً لسياساتٍ خارجية. أدّى ذلك الى مواجهاتٍ وعنف وقسمة مذهبية وترسيمٍ لخريطة سياسية لم تُسعف حربُ تموز/يوليو 2006 مع إسرائيل في تبديلها. فلا الحزب أراد يومها التصالح الوطني، ولا خصومه أدركوا مؤدّيات الحرب وتداعياتها داخلياً، فتصادمت رهاناتهم من جديد مكرّسة قطيعة ظنّ حزب الله فائض قوّته في أيار/مايو 2008 قادراً على فرض تجاوزها، قبل أن تذكّره خسارته الانتخابات النيابية بعد عامٍ بقواعد اللعبة في نظام "التوافقية الطائفية".
ومع اندلاع الثورات العربية ووصولها الى سوريا في العام
2011، نفّذ حزب الله انقلاباً أطاح بالحكومة وأتى بواحدة يملك فيها نفوذاً أوسع،
بما جعله يبسط سيطرته الأمنية داخلياً، ويشارك بحرّية عسكرياً في المقتلة السورية
دفاعاً عن نظام الأسد وعن خيارات طهران في المنطقة. حصل ذلك في ذروة تطوّرات
إقليمية ودولية أضعفت خصومه اللبنانيين تدريجياً وجمّدت الديناميّات السياسية في
البلد، وساهمت في استنزاف اقتصادٍ كانت بعضُ خياراته والسياسات المالية المُعتمدة
لتحقيقها معطوفةً على مسالك الهدر والتناهب المستمر بين أطراف الحُكم القديمة
والطارئة قد أنهكته وأوهنت مرافقه والخدمات المرتبطة بدورته.
ولم يكن تعطيل مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية بعد
ذلك، عبر التمنّع عن انتخاب رئيس جمهورية جديد والتمديد للمجلس النيابي ورفض تشكيل
حكومة إنقاذ مستقلة لمعالجة الأزمات المتلاطمة، سوى استمرار في تجميد حزب الله
للسياسة في البلد بانتظار بشائر ميدانية من سوريا والعراق، ومن المفاوضات النووية،
تُطمئن طهرانَ الى سطوتها من بغداد الى دمشق فبيروت (مروراً بصنعاء). ولا شكّ أن الاتفاق
النووي الإيراني الاميركي ثم التدخّل العسكري الروسي في سوريا في العام 2015 وفّرا
لإيران وحليفها اللبناني حيّزاً واسعاً من الاطمئنان المنشود، فسمح الحزب عندها
بانتخاب رئيس جمهورية، وبإجراء انتخابات نيابية في لحظة تراجع الدعم لخصومه من
قِبل السعوديين الغارقين في حرب اليمن وصراعات التوريث، ثم ساهم في تشكيل حكومة
يُمسك بسياستها الخارجية وبقرارات الحرب والسلم فيها، ويترك للتوافق بين أطرافها
إدارةَ ما تبقّى من شؤونٍ وُلِّيت عليها.
هكذا، صار حزب الله عرّاب السلطتين التنفيذية والتشريعية
في لبنان، وصار فائض قوّته الراعي أو الزاجر لهما، وباتت التوافقية الطائفية التي
لجمت تمدّده (وتمدّد سواه) في السابق إطاراً محصورة صلاحيّاته بالشبكات الزبائنية
وبالحصص والتعيينات وتقاسم ما تبقّى من إمكانيّاتٍ في دولة مُفقرة ومديونة، زادها
العزلُ السياسي الخليجي والأميركي بعد انتخاب ترامب وهناً. واستمرّت الأمور على
هذا النحو حتى تشرين الأول/أكتوبر 2019.
فالانتفاضة الشعبية الأوسع التي عرفها لبنان انطلاقاً من
ذلك التاريخ (بعد تحرّكات ومقاومات ثقافية لم تستكن، ولو أنها ظلّت محدودة الأثر، طيلة
المرحلة المنصرمة) أعادت جموعاً كبيرة من الناس الى الشأن السياسي، وجعلت من
الاقتصاد والمالية والفساد ونظام المحاصصة الطائفي والحرّيات العامة والخاصة
واستقلال القضاء والمساواة بين النساء والرجال أولويات تداولٍ، كانت القسمات
السياسية والمذهبية الطاغية قد حجبتها. وأتى الانهيار المالي وتمنّع المصارف عن
تسليم المودعين أموالهم، وهي التي سبق أن راكمت أرباحاً ضخمة نتيجة استدانة الدولة
عبر البنك المركزي منها بفوائد مرتفعة، ليُعطيا بعداً تراجيدياً للانتفاضة، وسّع
من رقعة الغضب المرافقة لها وعظّم في الوقت نفسه من مصاعبها وتحدّياتها. ومع أن الحُكم
تصدّع في مواجهتها، إذ سقطت الحكومة وحوصر مجلس النوّاب وتعرّى رئيس الجمهورية وبدت
أكثر فأكثر ضحالته وغُربته عن الواقع، إلا أن حزب الله لملم حلفاءه المتهاوين،
وشدّ أزرهم وشنّ هجوماً مضاداً متدرّجاً على الانتفاضة فحاصرها.
وبالنظر الى التدرّج المذكور، استهلّ الحزب هجومه بتخوين
المنتفضين، ثم بمذهبة الخطاب بوجههم. واستعان بشبّانٍ من كوادره ومن عناصر حليفته
حركة أمل للهجوم عليهم وتحطيم مواقع اعتصامهم، قبل أن يلجأ الى إعادة تشكيل السلطة
التنفيذية ويوكل بواسطتها الى الأجهزة العسكرية والأمنية الرسمية مهمّة القمع الذي
أعانته كورونا، والحجر الصحي الإلزامي الذي تبعها، على إنهاء التجمّعات والمسيرات
الكبرى.
ورغم استئناف بعض مظاهر الانتفاضة في الأسابيع الأخيرة،
ورغم عجز الحكومة الجديدة ومعها الطاقم الحاكم بأسره وجمعية المصارف الشريكة له عن
إيجاد الحلول أو التخفيف من وطأة الأزمات، إلا أن حزب الله ما زال ممسكاً بمفاصل
السلطة، مستعيناً بترسانته السياسية ومستخدماً كل ما يملك من عدّة التخوين والعنف
المعنوي المقرون بذاكرة العنف الجسدي لضبط الأمور وإبقائها على ما هي عليه.
بهذا، يتبدّى في الذكرى العشرين لتحرير الجنوب اللبناني
كم أن موقع الحزب المحتكر للذكرى والشاهر إياها في وجه من يخاصم هو موقعٌ مركزي في
تركيبة الحُكم القائم. ويتبدّى كذلك كم أن العلاقة بالحزب هي المعضلة اللبنانية
الأبرز. إذ لا حلّ معه في المدى القريب لارتباط خياراته وأدائه بأولويّات إيران من
جهة، ولامتلاكه السلاح وفائض الشعبية في بيئته من جهة ثانية. كما أن لا حلّ بدونه
للأسباب عينها، الممكّنة إياه من تعطيل كلّ ما لا يناسبه.
هل هذا يعني ألا شيء يمكن فعله في ظلّ المعادلة
المذكورة؟ بالطبع لا. فثمة العديد من الإصلاحات ومن الحملات المواطنية في قضايا
حقوقية واقتصادية واجتماعية وبيئية، وثمة الكثير أيضاً من المبادرات والسياسات على
المستويات المحلية والطلابية والنقابية والقطاعية التي يمكن السير بها ورفد
الانتفاضة بما يمكن أن تحقّقه وأن تفرضه في مواضع لا تعني الحزب أو تُلزمه، إن
عنته، بما قد يعدّه تنازلات. لكن لا مفرّ من الإقرار أن التغيير الجذري للأمور
متعذّر اليوم في ظلّ مواجهة الحزب المسلّح له، وفي ظلّ حكومةٍ وبرلمان يسيطر
عليهما وأجهزةٍ أمنية تحت وصايته. وتُعينه على ذلك أيضاً رقاعةُ وفساد خصومه الذين
خرجوا من السلطة التنفيذية بعد مكوثهم فيها عقوداً، مبقين على جماعاتهم في
إداراتها وعلى كتلهم النيابية العقيمة في المؤسسة التشريعية...
زياد ماجد
مقال منشور في الملحق الأسبوعي للقدس العربي