تسود في بعض الأوساط الثقافية اللبنانية، الشابة عمراً
أو المتحدّرة من أصول يسارية، مقولات من نمط أن لبنان "كذبة"، وأن
الكذبة تلك ساهم الرحابنة وفيروز في صياغتها، أو أنها بالأحرى صاغت جوانب عديدة
ممّا قدّموه فنّياً على مدى عقدين من الزمن.
ويُنسب بهذا المعنى لمسرحيّاتٍ وأغانٍ رافقت جيلَين على
الأقل من اللبنانيين بناؤها لأوهام وركونها الى المبالغات الشعرية، بأسلوب درامي
يجمع بين المخيّلة السياسية القرويّة الفقيرة والخطاب الوطنيّ المجرّد من أي علاقة
بإشكاليات الاجتماع السياسي وهشاشة توازناته وواقع الصراعات فيه.
وقد انسحب التجريد هذا على الإنساني في فيروز نفسها، إذ
بدت لعقود أشبه بالرمز المقدّس أو بالرائدة الفضائية منها بالمرأة العادية،
وتحوّلت حتى في ما أُطلِق عليها من ألقاب، أبرزها "جارة القمر" و"سفيرة
لبنان الى النجوم"، الى كائن صوتي بلا لحم ودم يمثّل "فكرة" لبنان في
حيّز غامض، بلا جغرافيا وقوانين جاذبية، هو الفضاء الرحب وكواكبه.
والأرجح أن في النقد المذكور الكثير من الصحّة. غير أن
استسهال القفز من صواب التشخيص الى استنتاجٍ مفاده لا مشروعيّة الكيان اللبناني أو
كون البلد "كذبة" فيه من التبسيط والتجريد ما لا يقلّ عن اعتبار البلد
إياه "جبال صوّان" أو "صخرة معلّقة بالنجم" أو "ذَهب
زمان ضائع". ذلك أن المبالغات
المحمّلة شوفينية وشحنات ميتافيزيقية كانت على الدوام، وفي كل البلدان والأمم، عنصراً
من عناصر تكوين "الوطنية" وصناعة "الهويّة" الدافعة الى ترسيم
حدود ترابية غالباً ما جاءت مُفتعلة، قبل أن ترسّخها مصالح وعلاقات وسُلطاتٌ ومُدن
وتقارُب لغاتٍ ولهجات. ولا استثناء في السردية الإنشائية والفولكلورية اللبنانية
في هذا الباب، ولا جديدَ كذبٍ، في ما خلا أن البلد ذاته فتيّ النشأة، رسمت حدوده
انهياراتٌ أمبراطوريةٌ وتفاهمات استعمارية، تماماً كما رُسِمت حدود كثرةٍ من البلدان
العربية الأُخرى والأفريقية والأميركية والآسيوية والأوروبية البلقانية والشرقية.
وهو بهذا المعنى، لم يكتمل نموّه، فكيف وقد انفجرت فيه وحوله تناقضات أفضت حروباً
طاحنة واجتياحات واحتلالات واختلالات لم يتخطّ آثارها، وولّدت فيه رغم قسوتها تعلّقاً
به، ليست كثرة الانتفاضات الشعبية والحيويات الثقافية والمدنية إلا بعضاً من
مظاهرها.
على أنّ القول بلا استثنائية المبالغة في تعظيم لبنان
ورفعه الى مرتبة أقرب الى السماء منها الى الأرض، لا يعني في السياق الداخلي
اللبناني أن لا مؤدّيات سياسية للمبالغة المذكورة، خاصة وأن السجال تجدّد حول وضع
البلد ودوره ووظيفته في ذكرى الحرب الأهلية قبل أيام (في 13 نيسان/أبريل)، بالترافق
مع تداول فيديو حديثٍ لفيروز تتلو فيه صلوات لمواجهة فيروس كورونا.
وإذا كان من نقدٍ يمكن كيله في هذا الباب، فهو لأمرين
اختزنهما الميراث الرحباني إذ تحوّل إيديولوجيا، قبل أن ينشقّ عنه الإبن زياد
شاهراً في وجهه إيديولوجيا مضادة، ظلّت في تكوينها شديدة الشبه به.
الأمر الأوّل، ارتباطه الوثيق بخطابٍ حربي لم يرَ في
المسؤولية الأولى عن خراب لبنان سوى "غريب" أو "محتلّ"، يكفي
كفّ شرّه ليعود "لبنان الحقيقي، لبنان البساطة" فينزع "الوجوه
المصبوغة والوعود المدموغة". والخطاب هذا لم يتبدّل في بعض الأوساط الطائفية اللبنانية
منذ عقود، وهو عطف على الغريب الأول الفلسطيني، غريباً ثانياً هو اللاجئ السوري المُشرّد
الى لبنان اليومَ والمتّهَم بالمسؤولية عن تردّي أوضاعه.
والأمر الثاني، هو مساهمته في تجميل ثقافةٍ سياسية تُماثِل
في جوانب منها ثقافات الشعبوية المتطرّفة وما فيها من تسطيحٍ للصراعات في
المجتمعات وإحالة للسياسة الى مشكلة مع ممثّل للدولة أو مع معقّب معاملات أو مع
طبيب أو محامٍ أو "مثقّف" (يمثّلون السلطة) أو مع أجنبي وقوى خارجية
هُلامية، يتآمرون جميعهم على الشعب الأصيل وعلى أبطاله الناطقين بكلمة الحق. وفي
هذا ما يُلغي كلّ التعقيدات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفلسفية و"يُسهّل"
الحياة واتّخاذ المواقف فيها (على نحوٍ قد يكون خطيراً في نتائجه). فكيف وأن
التجميل الفنّي للأمر مُحمّل بخفّة ظلّ شخصياتٍ مسرحية وبموسيقى عذبة وكلمات غرام يرافقها
صوت "أيقوني"، هو صوت فيروز!
ولعلّ المفارقة هذه تحديداً هي مكمن المغناطيس في
التجربة الرحبانية – الفيروزية، إذ أنها تجذب جمهوراً أوسع بكثير من أي
إيديولوجيا، وتدفع بعضه لِغضّ النظر عن البعد "السياسي" وعن التغنّي السقيم
بالأمجاد المتخَيَّلة الغابرة (أو حتى للدفاع عنهما)، بسبب تعلّقه بأغاني حبّ وغزل
ومناجاة طبيعة لا تشبه "الوطنيّات" المغنّاة إلّا في الجذور الريفية
المشتركة أو في البحث عن الضيعة الضائعة والمشتهاة. وهذا ما يُسبّب بدوره الارتباك
تجاه فيروز كظاهرة فنّية، خاصة بعد أن أبعدها ابنُها زياد لفترة عن الصورة التي
سجنها والده وعمّه داخلها، وأنزلها من النجوم وملّكها مشاعر ضعف و"ضيق
خلق" وندم ورغبات غواية وسهر وعلاقات "أرضية". لكنّه إذ فعل ذلك،
لم ينجح في تحطيم الهالة القدسية المحيطة بها، ولم يشأ ذلك ربما وهو الحاصل بنفسه على
ما يُعادلها، بصناعة يسارية – شيوعية هذه المرّة، قد تكون مواقفه السياسية البائسة
في السنوات الأخيرة ثم اختفاؤه لحظة الانتفاضة اللبنانية قبل أشهر قد أزاحت جانباً
منها. ويمكن القول اليوم ان ريما الرحباني، إبنة فيروز ومديرة أعمالها، أعادتها مؤخّراً
الى مقام غامض وملتبس بين مقامَي الأب والأخ، يُشبه ظهورها الأخير الغريب وهي
تصلّي لخلاص البشرية من فيروس، فتبدو ملاكاً حارساً للبعض، ومجرّد سيّدة ساذجة مستَغَلّة
شهرتُها، للبعض الآخر...
يبقى أن النقاش المذكور بأسره لا يعدّل كثيراً في أذواق
معظم المستمعين لفيروز، من العرب بخاصة، مقدِّسين لها أو نابِذين أو متعلّقين –
مثل كاتب هذه السطور – بأغاني محّددة من ألبومات مختلفة، للرحابنة ولمحمد عبد
الوهاب كما لفيلمون وهبي وزياد (بقديمه وبما قدّمه لها في آخر الثمانينات وفي
التسعينات فقط) ولمحمد محسن وزكي ناصيف. وفي التعلّق الانتقائي هذا، ما قد يُبقي
لفيروز مكانة خاصة في الذاكرة الفنّية الجمعية، فيُقصي عنها الزوج والإبن والبنت
والايديولوجيات، ويسمح بتقييمها لحناً أو شعراً أو أداءً أو ظهوراً إنسانياً أو عُرباً
صوتية...
زياد ماجد
مقال منشور في ملحق القدس العربي