لا يقتصر الخوف والتردّد تجاه الثورة السياسية على الأوساط السياسية في لبنان، بل يشمل أيضاً بعض الأوساط الثقافية، ولو لمبرّرات تختلف قليلاً.
فما هي هذه المبرّرات؟
النص التالي المنشور في جريدة النهار محاولة للبحث في أربعة مبرّرات...
تتواصل الثورة
السورية
منذ أكثر من 24 شهراً. وتتداخل فيها أشكال الاحتجاج الشعبي (مظاهرات تخطّى عددها
في بعض الأسابيع ال900 في أكثر من 600 نقطة في اليوم الواحد)، بالكفاح المسلّح
(الذي حرّر مناطق واسعة من البلاد)، بانعتاق الألسن التي كبّلها الخوف من سلطة
ضاربة في التعسّف والاستبداد منذ نصف قرن، بالإبداعات الفنية (أغان وموسيقى وأفلام
وتصوير ورسوم ونحت)، بالغزارة في الكتابة الصحافية وفي إصدار المجلات والجرائد الشبابية،
بإطلاق المخيّلة الساخرة المنكّلة بالدكتاتور وهيبته (وجعل شعاراتها اختصاصاً وميدان
تبارٍ فردي وجماعي)، بمبادرات التضامن والتكافل الاجتماعي الهادفة الى التخفيف من آثار
الرعب والتهجير... كل هذا في مواجهة نظام لم يملك منذ اللحظة الأولى سوى العنف
البدائيّ يُعمّمه على المجتمع، بالسكاكين والمدافع تارة وبالطيران الحربي وصواريخ
سكود تارة أخرى، طاحناً عشرات الألوف من البشر دون أن يفلح في وقف تقدّم الثورة أو
في قهر إرادتها.
وما
لا يقلّ أهمّية عن التطوّرات الميدانية وعن التبدّلات المذكورة، هو ما تمثّله
الثورة السورية من هدم لثقافة سياسية وللغة ابتزازية زرعها النظام البعثي الأسدي
في سوريا والمنطقة بأسرها، ومفادها تحويل فلسطين الى سجن – بالمعنيَين الرمزي
والمادي – تُقفَل زنازينه على كل مُطالب بحرّية أو مُسائل لقرار أو رافض لمهانة أو
لتأبيد حكم في شخص وعائلة. وليس أكثر دلالة على الأمر أن واحداً من أبشع السجون
السياسية في سوريا، اسمه "فرع فلسطين"، وهو مزروع في دمشق ليثير الرعب
ويذكّر بما ينتظر "المتمرّدين"...
أبعد
من ذلك، تُعيد الثورة الى الزمن حياته في سوريا، بعد أن علّقه حافظ الأسد وحاول
تأبيده في حكمه وفي تماثيله وفي فعل توريث السلطة وفرض مصطلحاتها ولغتها على الناس
على نحو تصبح هي الناظم لحياتهم بعيداً عن الوقت ومساره "الطبيعي".
لهذه
الأسباب جميعها، تُحدث الثورة تغييراً في الوعي السياسي في سوريا والمنطقة، مبدّلة
قيماً وأولويّات وقسمات تتخطّى كل القسمات المعهودة حتى الآن، قومية وإسلامية، يسارية
ويمينية، علمانية وطائفية. ولهذه الأسباب أيضاً، تُحدث الثورة خوفاً وتردّداً في
الكثير من الأوساط السياسية التي تكيّفت على مدى عقود مع السائد والتي تخشى
التغيير وما يمكن أن يُنتجه من "فوضى انتقالية".
اللوحة للفنّان السوري يوسف عبدلكي |
على
أن الخوف والتردّد لا يقتصران على الأوساط السياسية، بل يشملان بعض الأوساط الثقافية
أيضاً، ولو لمبرّرات تختلف قليلاً.
فما
هي هذه المبرّرات، في الحالة اللبنانية؟
يمكن
الحديث على الأرجح عن أربعة مبرّرات رئيسية.
أوّلها
"أمني"، مفاده أن هشاشة الإجماعات الوطنية في البلد الصغير المجاور
لسوريا تكشفه على أزمات قد تنحو باتجاه الانفجار إن تغيّرت المعادلات فيها، فكيف
والتغيير يصيب مباشرة أطرافاً حليفة وأُخرى معارضة للنظام المُتهاوي ستحاول جميعا
ترجمة المتغيّرات وتصفية الحسابات في صراعها على السلطة في لبنان.
وثانيها
"طائفي"، يرتبط بذعر ديموغرافي يصيب "الاقلّيات" ولا تنجو منه
نخب يُفترض أنها علمانية و"مواطنية الهوى". والنخب هذه تخشى مفاعيل ما
يمكن تسميته بالصعود السني في المنطقة، بعد عقود على حكم "أقلّوي" في دمشق
(يشبهها بهذا المعنى تحديداً)، وبعد عقود على توازن قوى بين إيران والسعودية عطّل
هذا الصعود أو لجمه في المشرق العربي.
وثالثها
إيديولوجي، يصيب بعض الشرائح العروبية واليسارية (ولا أتحدّث هنا عن المنتمين الى
التيارات الشيوعية والقومية المتحالفة مع النظام الأسدي)، التي اعتادت التشكيك بكل
حدث في المنطقة باعتباره طرف خيط مؤامرة، والتي تقرأ التطوّرات على نحو
"تجريدي" يضع الحدود والصراعات الاقتصادية والنفط والتحالفات بين
الأنظمة في قلب المشهد، ولا يترك للناس ولحقوقهم أي مكان أو دور في التحليل!
أما
الرابع، فهو ذلك المرتبط بمشروطيّات بعض المثقّفين، الذين استسهلوا احتقار مجتمعاتهم
وروابطها الأهلية بوصفها رجعية المنحى. ويمكن تسمية موقفهم بالثقافوي إذ لا يرون
في شعوب بلادهم أي أمل ويعدّونها في طبيعتها مخاصمة للتقدّم والحرّية
والديمقراطية، فكيف لها أن تخرج مطالبةً بقيم ليس لها شأن في مفاهيمها! وللمثقّفين
هؤلاء، بناء على تقييمهم للناس، دفاتر شروط لا يمكن اعتبار تحرّك شعبي ثورةً إن لم
يلتزم بها، حتى لو شارك فيه على مدى عامين حتى الآن ملايين "المواطنين
والمواطنات" ومات منهم في سبيل تحقيق أهدافه وإسقاط نظام همجي ثمانون ألفاً
وأصيب واعتُقل مئات الألوف، ولم يتراجعوا عن إصرارهم وعنادهم وهدمهم لمقوّمات
الاستبداد الأمنية (واللغوية) واحداً بعد آخر.
يمكن
البحث بالطبع في أسباب إضافية، ويمكن "تفهّم" بعضها وذمّ البعض الآخر.
ويمكن تفسير الصمت في بعض الحالات بكونه خوفاً "فردياً" من الأذية التي
لطالما أصابت معارضين لنظام الأسد في لبنان.
لكن
كل هذا لا يغيّر في شيء.
فالثورة
السورية المستمرّة ستحدث تغييرات جذرية في المنطقة، وهي لن تطمئن أحداً أو تخفّف
من روعه أو تلبّي شروطه. هي ثورة شعبية جارفة لا تُحاكي إلا ذاتها، ثورة الناس
العاديّين الذين يحملون تناقضات سياسية وقيمية ومصلحية وتغيب عن بالهم أفكار وتحضر
أخرى. وهي ثورة تحمل من العشوائية في رفضها للاستبداد وتوقها للحرّية والكرامة
أكثر مما تحمل من التخطيط. وهي أخيراً ثورة تُشبه المنخرطين فيها، ببهائهم وشجاعتهم
وإبداعاتهم، كما بغضبهم وأحقادهم وبشاعاتهم.
والموقف
منها بالتالي هو موقف مبدئي لا يلغي الحق في نقد بعض أوجهها، ولا يلغي الإقرار
باحتمالات انجرارها الى الكثير من العنف والثأر في الآتي من الأيام، ولا يحول دون
تحليل السياسات والاستراتيجيات الإقليمية والدولية المحيطة بها والمحاوِلة توظيفها
والتنافس على التأثير فيها لأسباب متناقضة.
هي
ثورة فحسب، وتتمّة التشخيص والنقاش والبحث في المخاوف والمحاذير والأضرار تأتي بعد
الإقرار بأحقّيتها وبالانحياز العلني إليها ضد النظام الاستبدادي. فثمن الحرية بعد
نصف قرن من الفساد والإفلاس والعسف "الوطني" باهظ جداً، وكل تأجيل
لتسديده سيجعله أكثر كلفة وسيجعل الأضرار المرافقة له أشدّ وطأة في المستقبل على
السوريّين وجيرانهم اللبنانيين بخاصة.
أما
النأي بالنفس والصمت، في حالة المثقّفين، فهما في مؤدّياتهما السياسية أقرب الى
موالاة النظام والقمع، أو على الأقل، هما تفريط بالرأسمال الرمزي للمثقف وبدوره في
مناصرة الحرية بوصفها فضيلة وغاية في ذاتها...
زياد ماجد