Tuesday, September 25, 2018

في وداع الفنّانة والمناضلة الديمقراطية السورية مي سكاف


الصديقات والأصدقاء

نجتمع اليوم لنحيّي ذكرى الصديقة الراحلة مي سكاف، ولنحيّي معها ذكرى أحبّة كثر رحلوا في سوريا وفي المنافي في السنوات السبع الأخيرة.

لكنّنا نجتمع أيضاً لنتمسّك ببعضٍ من أمل تُعيد بعثه مظاهرات إدلب وراياتُها وشعاراتها، ليس لأن موازين القوى الراهنة قد تتغيّر، ولا لأن العودة الى العام 2011 ما زالت ممكنة. بل لأن المظاهرات هذه، وفي صفوفها أطياف من سوريّين وسوريّات من مختلف المناطق، من درعا والغوطة وريف دمشق، ومن حمص وحماه وحلب والرقة وتدمر ودير الزور، تثبت أن الناس ما زالوا بأكثريّتهم، ما أن يتوقّف القصف الروسي والإيراني والأسديّ عليهم والقمع ضدّهم، متمسّكين بإسقاط نظام القتل والتعذيب والتعفيش، يرفعون حين يُترك لهم الخيار علم الثورة وما يرمز إليه، بعيداً عن كلّ الأعلام والرايات الفصائلية الضيّقة، وبعيداً بشكل خاص عن رايات السواد التي أراد المزوّرون ومروّجو الأسدية تصويرها كبديل وحيد عن نظامهم وسياساته.

وهذا يدفعنا من جديد، كسوريّين أو كمناصرين للسوريّين وقضيّتهم، للتأكيد على مجموعة أولويّات لا تدّعي حصريّة أو تستثني غيرها.

أولوية مواصلة الكفاح المدني ودعمه للصمود في وجه كلّ ما يتهدّده داخل سوريا وفي مخيّمات اللجوء كما في بلدانه، ومواصلة النشاط الثقافي والإعلامي تعريفاً بالمسألة السورية ودعماً لحق الشعب السوري بالسلام والحرية والعدالة التي لن يتحقّق أي منها في ظلّ نظام يُطبِق عليه ويرتكب المذبحة تلو الأخرى بحقّه منذ قرابة النصف قرن، وفي ظلّ احتلالات أجنبية تحمي بمعظمها هذا النظام وتتحوّل الى طوق نجاته الأبرز.

أولوية العمل لإنقاذ المعتقلين والمغيّبين في السجون الأسدية وفي جميع السجون، ورفع هذا الشعار في كل فعالية واجتماع ولقاء، والمطالبة باسترجاع جثامين من قضوا تحت التعذيب والتجويع والمرض وأحكام الإعدام. يريد النظام الأسدي تحويل السوريّين الى أشباح يخاف الأحياء من بينها من ظلّهم، ولا يملك الأموات جثامين أو قبور. وواجبنا بالتالي التصدّي لذلك والإكثار من التوثيق وسرد قصص وابتسامات وخيبات وأحلام وأسماء أهلنا الأحياء والأموات، حفظاً لذاكرتهم – ذاكرتنا، وصوناً لكرامة تضحياتهم التي يريد التوحّش ألا يبقى منها أثر.

أولوية التأكيد أبداً على أن العدالة وحدها، وسقوط الحصانة عن المجرمين جميعهم، هي الطريق الوحيد نحو السلام والاستقرار وطيّ صفحات الماضي دون نسيانها. فمن دون عدالة، ستبقى سوريا أرضاً للإفلات من العقاب، يحتمي فيها المجرمون بلا خشية حساب، ممّا يشجّعهم على تكرار جرائمهم ومذابحهم دورياً.
ولأمر العدالة هذا ما يتخطّى الإطار الأخلاقي أو القانوني الصرف، ليلامس السياسة والأمن المهدّد اليوم وكلّ يوم. فالعنف والعدميّة والكراهية تتأسّس فوق أنقاض المجتمعات الخالية من العدالة، ولنا في فلسطين والعالم العربي عموماً تاريخ طويل من غياب العدالة، وصل في الحال السورية الى حدودٍ قصوى... والأمر ليس مسؤوليّتنا وحدنا، بل هو مسؤولية إنسانية كونيّة، إذ أن انتهاك العدالة عندنا هو في بعض أشكاله مرآة لانتهاكها عالمياً، أو على الأقل مسلك تُتيحه وتحميه اللاعدالة السائدة. من هنا أهمية العمل مع رفاقنا وأشباهنا في كل مكان لمواجهة ذلك وعدم الاستسلام له...


أما بعدُ أيّها الأصدقاء، أيّتها الصديقات،
لا مبالغة اليوم في القول إن الموقف من المسألة السورية هو المعيار الأنصع لإنسانيّتنا، وهو الناظم لأهم اصطفافاتنا ضد الظلم والقهر والتمييز.
وفي وضوح هذا الموقف وشجاعته وقفت فقيدتُنا العزيزة مي سكاف. ووقف معها كثر وكثيرات ممّن يجتمعون هنا الليلة، أو في مدن أُخرى في هذا العالم.

لِذكراها الورود والرياحين، ولشهدائنا وشهيداتنا المجد والخلود، ولكم جميعاً الصبر والنصر وطول البقاء.

زياد ماجد 
كلمة أُلقيت في باريس في 23 أيلول/سبتمبر 2018، في ذكرى أربعين الراحلة مي سكاف، الفنّانة والمناضلة الديمقراطية السورية.