يتحسّر
اللبنانيون كلّ فترة على أحوال بلدهم ويردّدون أنه لم يسبق أن وصلت الى هذا الحدّ
من التردّي. والأرجح أنهم محقّون في كلّ مرّة في تحسّرهم، وأن الانهيار اللبناني
صار مديداً، لا قاع ظاهراً أو نهاية باديةً له.
أزمة
نظام
لعلّ الأزمة التي يتخبّط بها النظام اللبناني ونخبُه
السياسية منذ عقود، والتي تتّخذ دورياً أشكال الفراغ والتعطيل المؤسساتي وتعذّر
انتخاب رئيس أو مجلس نيابي أو تشكيل حكومة، تشكّل المفتاح لفهم أسباب هذا الانهيار
وصعوبة لجمه، ولَو أنها ليست المسبّب الرئيسي له.
ذلك أن "التوافقية"
المفترضة في نظام الحُكم في لبنان (المُعتمَدة منذ استقلاله العام 1943)، وما تُمليه
من تشارك في السلطة على أساس تمثيل الجماعات الطائفية لطمأنتها، تحوّلت في العقود
الأخيرة مع كلّ خلاف سياسي ومع أيّ إشكال حول أحجام التمثيل الى مدعاة تعطيل للدولة
باسم الطوائف وحقوقها. هكذا، يقاطع نوّاب جلسات انتخاب رئيسٍ للجمهورية مثلاً ليمنعوا
التئام النصاب القانوني واختيار مرشّح لا يوافقون عليه. وهكذا يُقفل رئيس المجلس
النيابي المؤسّسة التشريعية إن اختلف مع رئيس الحكومة أو يمدّد مع نوّابه لأنفسهم
إن اتّفقوا معه على تأجيل انتخاباتٍ لم ينجحوا في سنّ قانون لها يؤمّن تجديد
ولاياتهم. وهكذا أيضاً، يحول الخلاف على الحصص وعلى البيان الوزاري دون تأليف
وزارة على مدى أشهر طويلة، فيبقى البلد بأسره معلّقاً على تصريف أعمال.
ويُفيد
النظر الى انتخابات رئاسة الجمهورية وما تعنيه من توازنات سياسية وطائفية وتمثيل
للمكوّن المسيحي في الحُكم ومنطلق لتشكيل السلطة التنفيذية فيه للوقوف على عمق
أزمة "التوافقية" اللبنانية. فهذه الانتخابات لم تعد تعرف التئاماً
"طبيعياً" لها منذ العام 1982، حين انتُخب في ظلّ الاجتياح الإسرائيلي
رئيسٌ ثم اغتيل بعد أسابيع، ليعُوَّض الأمر بانتخاب أخيه. وبانتهاء ولاية الأخير العام
1988 لم يجرِ انتخاب خلفٍ له وانقسمت السلطة التنفيذية نتيجة ذلك وقامت في البلد
حكومتان. وحين جرت الانتخابات بعد عام ونصف من الفراغ في ظلّ الهيمنة السورية هذه
المرّة، اغتيل الرئيس المُنتخب ليأتي بعده رئيس آخر بشروط سياسية مختلِفة. وفي
العام 1995 عُدّل الدستور للسماح بتمديد ولاية الرئيس إياه، ثمّ جرى تعديل الدستور
مجدّداً العام 1998 للإتيان بقائد الجيش رئيساً. وفي العام 2004، أُعيد تعديل
الدستور مرّة ثالثةً لتمديد ولاية الرئيس ودخل لبنان في نفق مواجهات واغتيالات لم
يُبدّل خروج الجيش السوري عقبها من حال تأزّم النظام. فشهد العام 2007 تعذّراً
إضافياً لانتخاب رئيس الى أن أتاح تعديلٌ رابع للدستور انتخابَ قائد ثانٍ للجيش
رئيساً منتصفَ العام 2008. وبعد انقضاء ولايته شغر المنصب لسنتين كاملتين، تعطّل
خلالهما مجلس النواب ثمّ مدّد لنفسه، الى أن سمح اتّفاق على الحصص بانتخاب رئيس
أواخر العام 2016، كان نفسه مرشّحاً قبل 38 عاماً! وها هو الرئيس اليوم بلا حكومة،
في لحظة تفاقم أزمات سياسية ومعيشية لا يبدو المسؤولون مهجوسين بسبل مواجهتها.
...
وأزمة نخب سياسية
وهذا
يُحيلنا الى جانب آخر من جوانب أزمة النظام، وهو ذاك المتّصل بالنُخب السياسية
وارتباطاتها الخارجية.
فرهان
الُنخب هذه منذ الحرب الأهلية كان على تدخّل الخارج في شؤونها تبعاً للتحالفات،
نصرةً لمكوّناتها المتصادمة أو وساطة في ما بينها، بما يمكّنها في الحالتين، من
تدعيم مواقعها في المعادلة الداخلية. وهذا سهّل على الخارج مهمّة تحويل مسرحها
السياسي الى مسرح دائم لتصفية حساباته، وساهم في صعود قوىً محلّية وأفول أخرى
تبعاً لموازين القوى الإقليمية، كما أفضى الى تمكين أطراف من الاستئثار بتمثيل
طوائفها وإدارة شبكات الزبائنية المرتبطة بها، على نحو وفّر لها مغانم وأمّن منذ
سنوات طويلة حضورها تعييناً أو انتخاباً أو توريثاً.
على أن
عنصراً خطيراً أضيف الى المعادلة المذكورة، معادلة العلاقة بين النخب السياسية
اللبنانية والخارج، ألا وهو صعود حزب الله بوصفه دافعاً لتلك العلاقة الى حدودها
القصوى، وجعلها عضوية تشمل لأول مرّة في السياق اللبناني الأبعاد السياسية
والأيديولوجية والاجتماعية والحربية والمالية. وقد تحوّل الحزب الشيعي بموجب ذلك
الى ذراع ضارب لإيران في لبنان، يملك وحده بعد الحرب وتحرير الجنوب من الاحتلال
الإسرائيلي السلاحَ بين الجماعات اللبنانية ويستطيع بموجب قوّته العسكرية
(والتنظيمية) ونتيجة الديموغرافيا المذهبية الداعمة له فرضَ أكثر شروطه على منافسيه
المحليّين من ناحية، وعلى ربط لبنان مباشرة بصراعات المنطقة المحتدمة وفق عناوين
وشروط إيرانية، كما الحال منذ اندفاعه نحو الحرب السورية العام 2012، من ناحية
ثانية.
أزمة
اقتصاد وخدمات
لا عجب
والحال السياسي متردٍّ على هذا النحو، أن يتردّى الاقتصاد بدوره وأن تتدهور
الخدمات في البلد، وأن يُفاقم الصراع الطاحن في سوريا الأزمات جميعها، إن بسبب
الانقسام اللبناني تجاهه وانخراط حزب الله في أتونه، أو بسبب آثاره على التجارة
والسياحة وتصدير المنتجات الزراعية عبر الأراضي السورية.
لكنّ
العودة الى المسبّبات الأولى للتردّي تُحيلنا الى الزبائنية ضمن مؤسّسات الدولة والى
المحاصصة الطائفية داخل إداراتها، والى رفض النُخب السياسية المهيمنة منذ عقود كلّ
إصلاح إقتصادي وتعديل في السياسات المالية المعتمدة.
يُضاف الى
ذلك أنّ تراجع سلطة القضاء واستقلاليّته وانخراط الوزراء والنوّاب أنفسهم في
الكثير من الصفقات التي كثُر الحديث عن الهدر والفساد فيها كرّسا التردّي هذا،
وصارت الفضائح تتوالى دون متابعة قانونية أو محاسبة للمتورّطين فيها. ويكفي
التوقّف عند أزمتي الكهرباء والنفايات المستمرّتين للدلالة على حجم الاهتراء الذي
يُصيب الإدارة الاقتصادية اللبنانية ومن خلفها المسؤولين السياسيّين عنها. فرغم
مليارات الدولارات المُنفقة على مؤسسة كهرباء لبنان منذ العام 1992، ما زال تقنين
التغذية الكهربائية قائماً حتى اليوم واقتصاد المولّدات الموازي وتلويثه البيئي
والصوتي مسيطراً في معظم المناطق. ورغم مئات ملايين الدولارات المصروفة لإدارة
النفايات ورفعها ومعالجتها، تتواصل الأزمات وتُعتمد أبشع الأساليب من حرق وطمر
ورمي في البحر، بما جعل الشاطئ اللبناني المُنتهك أصلاً بالتعدّيات ملوّثاً ومثله الثروة
السمكية المهدّدة بالانحسار.
عنصرية
ورقابة
ولمواجهة
تصاعد الانتقادات للتردّي الخطير في أحوال الاجتماع اللبناني، خاصة مع انتشار
المدوّنات ومواقع التواصل الاجتماعي وما تُتيحه من نشر أخبار ومعلومات، يعمد بعض
المسؤولين في الآونة الأخيرة الى ممارسة الترهيب والقمع على أفراد ومجموعات،
ويحرّكون ضدّهم أجهزة أمنية وقضائية مطعون في صدقيّتها ونزاهة عملها،
ويتواطؤون مع هيئات دينية لتقليص مساحات التعبير العام والتضييق ما أمكن على
الناشطين فيها. كما أنهم يعمدون الى تشجيع خطاب كراهية عنصرية ضد اللاجئين
السوريين والفلسطينيين (وضد العاملات والعمّال الأجانب) لتحميلهم مسؤولية تراجع
الأوضاع المعيشية والخدماتية، فيردّد بُلهاءٌ خطابهم ويحوّله بعضهم الى ممارسات
تزيد من انحطاط المشهد اللبناني العام.
بهذا، يصل
التردّي الى مستويات هي بالفعل غير مسبوقة. ولا يبدو أن المقبل من الأيام سيحمل ما
قد يُغيّر الأحوال جذرياُ أو حتى يعدّلها.
لحسن
الحظّ أن البلد لم ينفجر بعدُ وأن الكثير من الحريات العامة والخاصة ما زالت محميّة
من تداعيات الانهيار. ولذلك أسبابٌ تستحقّ مستقبلاً التوقّف عندها.
مقال منشور في الملحق الثقاقي لصحيفة القدس العربي