ثمّة فرصة للسوريّين المقيمين في محافظة إدلب
لتنظيم أمورهم السياسية والإدارية بعد أن استعاد حراكهم المدني في الأسبوعين
الأخيرين الكثير من الزخم، مستفيداً من تراجع النيران الأسدية والروسية ومن انتزاع
أنقرة لاتّفاقٍ مع موسكو يحول مرحلياً دون الهجوم الشامل على المحافظة الشمالية.
النجاح التركي النسبيّ
نجحت تركيا في تأجيل الحرب على إدلب. ونجحت
أيضاً في إبعاد إيران عن حدودها الجنوبية. والأهمّ بالنسبة إليها أنها نجحت في
تثبيت دورها في المعادلة السورية مستندةً الى ثلاثة عوامل.
الأول، انتشار قواتها في إدلب عبر نقاط
المراقبة المُقامة إثر التفاهم على مناطق خفض التصعيد، وهو انتشار دعّمته في الفترة
الأخيرة بالآليات الثقيلة، بالترافق مع إدخالها أسلحةً وذخائر الى الفصائل السورية
المعارضة الدائرة في فلكها، للتأكيد على أنها لن تسمح بعبور المناطق المحاذية لنقاط
انتشارها من جهة وأنّ حدودها لن تكون موصدة أمام المقاتِلين المعارضين من جهة
ثانية.
الثاني، استفادتها من ارتباك موسكو السياسي
الناجم عن رغبة الأخيرة في تحجيم دور حليفها الإيراني لنيل موافقة أميركية على
خططها للحل السياسي و"إعادة الإعمار" سورياً، وحاجتها في الوقت ذاته
للجهود الحربية الإيرانية والميليشياوية الشيعية التي لا اجتياح لإدلب ممكن من
دونها، والتي ستوسّع من النفوذ الإيراني بعكس ما تريده له من تحجيم.
والثالث، استغلالها للخشية الدولية من موجات
لاجئين جديدة يتسبّب بها الهجوم الروسي – الإيراني الشامل يمكن أن يصل بعضها الى
أوروبا عبر أراضيها. وهذا ما لم يكن قائماً حين سقوط الغوطة أو درعا أو حتى حلب
الشرقية، وهو ما دفع العواصم المعنية تباعاً لرفع لهجتها ضد احتمالات الهجوم وعواقبه.
مكّنت هذه العوامل تركيا إذاً من الوصول الى اتّفاق
مع روسيا يمنع انفجار الوضع في إدلب ويكرّس دورها في إدارته. إلّا أن بعض مضامين الاتفاق
وتعهّداته ملتبسةٌ ويصعب السير بها من دون التعامل مع عقد كبيرة.
عقدة "تحرير الشام"
أولى هذه العقد وأصعبها هي عقدة "هيئة
تحرير الشام" وسبل التعامل معها. فالهيئة تسيطر على قسم من المحافظة
الشمالية، لا سيّما في جنوبها الغربي وغربها، وهي على تماس في مواضع كثيرة مع
مناطق حسّاسة للنظام وللروس. وإذ تريد موسكو القضاء عليها من خلال حملة تتشارك
فيها مع الأتراك أنفسهم، يجهد الأخيرون لحلّ يقوم أولاً على إحداث انقسامات كبرى في
صفوفها تُبعد كثرة من المقاتلين السوريّين عنها وتجذبهم نحو فصائل معارِضة تدعمها،
ثم الدفع بهذه الفصائل بغطاء منها لمواجهة من تبقّى فيها. وهذا إن اعتُمد يعني أن
لا سحب راهناً للأسلحة الثقيلة والمتوسّطة من الفصائل المعنية كما يطلب الروس في
الاتفاق، ولا إعادة فتح لطرقات رئيسية يمكن لأي قتال واسع النطاق أن يقفلها من
جديد. والأهمّ ربّما، أن لا شيء يضمن أن تبقى المواجهة مع "هيئة تحرير
الشام" ضمن الحيّز الجغرافي الذي تنتشر فيه حالياً وأن لا تعمد الهيئة الى
فتح جبهات مع مواقع للنظام في مداخل تفضي الى منطقة الساحل وجبالها، بما يخلق ظروفاً
غير مألوفة تماماً حتى الآن. إضافة الى ذلك، يتطلّب السيناريو التركي المذكور،
ومثله سيناريو الهجوم الروسي، وقتاً طويلاً إذ أن التعامل مع تنظيم فيه الآلاف من
المقاتلين المتمرّسين والقيادة المتعدّدة الخلفيّات شديد التعقيد خاصة إن كان
الخيار الوحيد المطروح على هؤلاء هو الاستسلام أو الموت. يعني هذا أن لا حلّ
قريباً أو وضوحاً في سبل التعامل مع عقدة "تحرير الشام"، ممّا سيترك
الكثير من أمور الاتفاق معلّقة بدورها.
فرصة سياسية في وقت مُستقطع
استعاد الحراك الشعبي في المدن والبلدات
الإدلبية والحلبية المتاخمة لها عافيةً لم يعرفها منذ سنوات. فتراجُع القصف
والانفراجُ الذي تلا الاتفاق التركي الروسي دفع عشرات الآلاف من المواطنين
للتظاهر، وعاد مع تظاهراتهم رفع شعارات سياسية مدنية (وضعيّة) ومعها علم الثورة
وما يمثّله من تناقض مع أعلام الكثير من الفصائل العسكرية، وبالطبع مع رايات
"هيئة تحرير الشام" ومقولاتها.
وهذا يدفع للقول إن ثمة لحظة سياسية يمكن
تحويلها الى فرصة لتظهير خطاب ومسلك سياسيّين وموازين قوى شعبية غابت أو خفت
حضورها في السنوات الماضية. والأمر لا يتطلّب بالضرورة قيادة موحّدة يصعب أصلاً
الاتفاق على ملامحها، ولا إدارة مركزية قد يدفع السعي الى تشكيلها الى تنابذ
وتنافس وتقرّب من مواقع قرار خارج إدلب نفسها. ما يتطلّبه الأمر هو مبادرات
موضعيّة تُفضي الى انتخابات مجالس محلّية تُعهد إليها مهام إدارية وتنسيقية وخدماتية.
كما تنبثق منها لجان سياسية قادرة على التواصل مع الفصائل العسكرية ورُعاتها
الأتراك حول سبل تنظيم الأمن وإظهار أن ثمة إمكانية لتقديم نماذج بديلة عن نموذج
"دولة التوحّش" الأسدي وعن نماذج الفوضى والخطف والتسلّط الميليشياوي
التي سادت في المناطق المحرّرة في السنوات السابقة. ففي نجاح من هذا النوع، وفي
حماية لأنشطة تعليمية وإعلامية وصحيّة وثقافية كما في مشاركة نسائية في الميادين
المذكورة، ما يؤكّد أن وقف القتل والقمع يسمح للناس ببناء تجارب مدنية تُبقي بعض
الأمل باحتمالات المستقبل. أكثر من ذلك، في هكذا نجاح ما يشكّل فعل مقاومة
للاحتلالات الأجنبية لسوريا، وفي مقدّمها الاحتلال الروسي.
الجغرافيا السياسية السورية وما تعنيه
تبدو الأوضاع في سوريا اليوم، بالاستناد الى
خريطتها وتنازع النفوذ فيها ومن حولها، مفتوحة على ديناميات كثيرة تُبقي الحلول
بعيدة عن متناول جميع الفاعلين الإقليميّين والدوليّين.
فالمنطقة الواقعة نظرياً تحت حكم النظام،
تتقاسم إيران وروسيا السيطرة عليها وتتحكّم ميليشيات موالية لهما باقتصادها
وأمنها، فيما تبقى للنظام المهام الخدماتية ومعها تماسك الآلة المخابراتية
والمؤسسة "الاحتجازية"، أي شبكة السجون والمعتقلات وإدارتها وصناعة
الموت فيها.
وإذا كان الرهان على طلاق روسي إيراني في غير
محلّه لعدم انتفاء حاجة كل طرف للآخر بعد، إلا أن اختلاف المقاربات والأولويّات
بين الطرفين والضغط الأميركي والإسرائيلي على علاقتهما ومشروطية استبعاد إيران للقبول
بسيناريوهات روسية يولّد ريبة وصعوبات في العلاقة لا شكّ أنها ستتضاعف في المقبل
من الأيام، خاصة مع محاولات موسكو تقليص نفوذ طهران تدريجياً أو الحدّ من قدرتها
على توسيعه.
ومعظم المنطقة الشرقية وشمالها المسيطر
عليهما من قبل الميليشيات الكردية بدعم وحضور أميركي مباشر، تخضع كما جيب
"التنف" الجنوبي، لاحتمالات تبدّل في شكل الانخراط الأميركي فيها
تواجداً أو إدارة سياسية، مع قدرة مناورةٍ للقوى الكردية قد يضيق هامشه إن تقاربت
أنقرة وواشنطن من دون أن ينتفي في أي من الأحوال نظراً للحاجة الى القوة العسكرية
الكردية ولمشروعيّتها الشعبية في بعض مناطق انتشارها.
أما إدلب والريفين الحلبي والحموي المجاورين
لها كما شمال حلب فباقية تحت سيطرة الفصائل المعارضة المدعومة تركياً، مع تكريس
للحضور العسكري التركي والانخراط المباشر في إدارة شؤونها.
بهذا، تبدو المسألة السورية اليوم في لحظة
ترقّب وانتظار قد تطول وقد تقصر بحسب التحوّلات الإقليمية والدولية. وفي الحالين، يبقى
بناء التجارب المدنية والاستفادة من كل تراجع للعنف أهمّ ما يمكن فعله والتعويل
عليه.
زياد ماجد