Tuesday, March 20, 2012

عن آذار اللبناني أيضاً وأيضاً

كتب لي العديد من الأصدقاء والصديقات الأعزاء معاتِبين على مقالي السابق حول الذكرى السابعة ل14 آذار العائدة كما في السنوات الأخيرة بلا جديد، وفي لحظة تناقض صارخ بين الحراك العربي، السوري بخاصة، والجمود اللبناني وانعدام القدرة على أخذ المبادرات، والتعويض عن ذلك بالتباهي بربيع بيروتي مضى واعتباره (خطأً) فاتحة ربيع العرب.

ولعل العتاب في جانب منه مفهوم، نتيجة الحاجة للنوستالجيا في ظلّ الفراغ الراهن ونتيجة ما مثّله ذلك اليوم الآذاري الاستثنائي من بهاء لا يُراد له أن يُخدش. ما ليس مفهوماً في المقابل، هو عدم الرغبة في قراءة أزماتنا اللبنانية وفق مساقاتها وأسباب وصولنا بعد تفاقمها الى حال من العجز تجاهها يجعلنا نسعى لإخراج يوم عزيز من سياقه لنبرّئه منها. النصّ هذا محاولة للقراءة، علّها تُقنع المُعاتبين بجدواها...

إنطلقت أزمات لبنان الحديثة على الدوام، من ال58 وال69، ثم حربه الأهلية من ال1975 الى 1990، وصولاً الى أزمته الكبرى المستمرة منذ اغتيال الرئيس الحريري عام 2005، من خلاف حول موقع البلد في الصراعات الإقليمية وأحلافها وسبل التعاطي معها، لتصل الى خلافات طائفية داخلية وتنافس على الأحجام داخل السلطة. وأدّى ذلك كل مرة الى مفاقمة فشل "الديمقراطية التوافقية" في إيجاد حلّ للنزاعات داخل المؤسسات الدستورية، والدفع بها الى "الشارع" المعبّأ.

وعلى الرغم من انتفاضة الاستقلال التي توّجها يوم 14 آذار بمشهد شعبي إستثنائي، إلا أن مسألتي الخلاف الجوهريّتين ظلّتا مرتبطتين بالعلاقة بأوضاع المنطقة وبأحجام المشاركة في المؤسسات. وقد أدّى الخلاف، كما في السابق، الى البحث عن تسوية تكتفي بإعادة توزيع الأحجام داخل مراكز القرار، كي لا يتمكّن أي خيار من فرض مسلكه على الخيار الآخر. لكن التسوية لم تستمر طويلاً هذه المرّة، وعمد حزب الله الى استخدام سلاحه في الداخل لتعديل موازين القوى والإطاحة المؤقّتة بالصيغ التشاركية. ورغم هذا الاستخدام وتلك الإطاحة، لم يُفلح الحزب في أكثر من تجميد الأمور لصالحه مؤقّتاً، وتكريس ارتباط لبنان بأحوال المنطقة واحتمالات تبدّل الظروف فيها، وبالتالي فيه.

ولمراقب أن يقول إن مردّ التكرار في الصراعات والتسويات الجزئية في الحقبات الماضية وفي خصائص أزماتها يعود بشكل أساسي الى انتفاء تجديد النخب السياسية نتيجة قوانين انتخابية تستبعد التمثيل النسبي، والى رسوخ ثقافة توارث عائلي للتمثيل السياسي يتمتّع المنضوون فيها بمشروعية شعبية طائفية تصعّب عزلهم أو إصلاح النظام ضد رغباتهم. كما يعود طبعاً الى عمق نفوذ اللاعبين الخارجيين في أوساط حلفائهم المحليين.

لذلك، لم يكن مستغرباً أن تكون مفاعيل 14 آذار 2005 السياسية محدودة داخلياً. فهي وإن ثبّتت في ذلك النهار توقاً شعبياً جارفاً الى الاستقلال ونجحت في إنزال هزيمة سياسية في معسكر النظام السوري وحلفائه، إلا أنها عادت واستسلمت للسياسة اللبنانية بانقساماتها العامودية الحادة. أكثر من ذلك، لم تفلح في التخفيف من حدّة الانقسامات تلك، ليس نتيجة الاغتيالات والضغط الأمني فحسب – على أهوال ذلك وأثره الشديد – لكن أيضاً نتيجة الثقافة السياسية ونتيجة النظام نفسه ونتيجة انتماءات النخب السياسية وولاءاتها...


من هنا، ينبغي اليوم، بعد سبع سنوات وفي ظل الربيع العربي وما يمثّله من تغيير وعودة الى السياسة والزمن (بمعزل عن الملابسات التي قد تفضي إليها المرحلة الأولى التالية لسقوط الاستبداد)، أن تكفّ النوستالجيا عن التحكّم بقراءة كثر من اللبنانيين للأمورَ وتمسّكهم بالخطابات والتحالفات السابقة. فباستثناء سلاح حزب الله (الخطير والجسيم الضرر) وما يعنيه ربطاً بالخلاف على المواقف تجاه أحداث المنطقة، لم يعد يوجد من القسمة بين الضفتين الآذاريّتين السابقة كثير أمور. حتى المحكمة الدولية وقضايا النزاع على تاريخ لبنان مثلاً، لا تتوزّع المواقف تجاهها وفق القسمة القديمة. كما أن أكثر المواضيع الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية تخلط الأوراق والأحلاف، من السياسات المالية الى حقوق المرأة والتشريع لتجريم العنف ضدها، الى الحقوق المدنية للفلسطينيين، الى الإصلاح الانتخابي.

هل هذا يعني تخلّياً عمّا مثّلته 14 آذار ال2005 وعمّا جسّده كثر من المشاركين فيها؟ بالطبع لا. لكنّه يعني ضرورة البحث عن مبادرات خارج النوستالجيا وخارج الاصطفافين العاجزين منذ فترة عن تقديم جديد أو عن إحداث خرق في الجدار الذي بُني قبل سبع سنوات. وإلّا، فستأتي الذكرى الثامنة ونحن نعيد تطارح نفس الأسئلة وتبادل نفس العتاب...
زياد ماجد