لم يعرف اليسار الفرنسي منذ قيام الجمهورية الخامسة العام 1958 حالة تراجع وتردٍّ كالتي يعرفها منذ أربع سنوات. ولا شكّ أن الانتخابات الرئاسية المقبلة في شهر نيسان/أبريل المقبل ستُترجِم هذا التراجع إلى ما هو أسوأ نتيجة لليسار منذ عشرات السنين.
ولهذا
التراجع أسباب عديدة، فكرية وسياسية وتنظيمية.
السبب الأول من بينها، وهو لا يُذكر كفايةً، برنامجي، اقتصادي-اجتماعي. ذلك أن فرنسا اليوم هي (مع السويد) أكثر الدول الغربية محافَظةً على إرث اشتراكي وعلى دور رعائي للدولة، رغم كل محاولات قضمه في العقود الأخيرة ورغم تقليص الموازنات الاجتماعية والسعي لتغيير قوانين وتشريعات بحجّة الإصلاح وتحسين الشروط التنافسية للقطاعات الاقتصادية الفرنسية.
فمن
مجانية التعليم في جميع المراحل، إلى التغطية الصحية والاستشفائية الواسعة، إلى
المساعدات الشهرية للباحثين عن العمل وللعائلات الكبيرة ذات الدخل المنخفض، إلى
معونات السكن والنقل العام، الى التسعيرات التضامنية للأنشطة الثقافية والترفيهية
للأطفال والطلاب وللمتقدّمين في السن، وصولاً الى الضمانات التقاعدية، توفّر
الدولة الفرنسية الكثير من مقوّمات التنمية الاجتماعية وحدّاً ملموساً من عدالتها،
وتتدخّل عبر موازناتها لدعم قطاعات وطنية مهدّدة أو للحدّ من جموح الشركات
العالمية وحماية بعض حقوق موظّفيها فوق الأراضي الفرنسية. وآخر تدخّلاتها، تخصيص
مبالغ ضخمة (تخطّت ال450 مليار يورو) خلال أزمة كورونا في العامين الماضيَين لدعم المؤسسات
الصغرى والمتوسّطة، ولتوفير القروض وتعويض القطاع الخاص عن التقديمات الاجتماعية
لمستخدميه وتسديد رواتب 8 ملايين منهم مباشرة على مدى أشهر لعدم تعريضهم لاحتمالات
الصرف، وتأجيل استحقاقات تخصّ العاملين والعاملات المستقلّين ودعمهم مالياً في حال
توقّفهم عن العمل. أدّى الأمر الى تجنّب انهيار آلاف الشركات ومنع اتّساع البطالة،
ومكّن فرنسا في الأشهر الماضية من تحقيق أعلى معدّلات نموّ اقتصادي بين الدول
الغربية (مع تحسّن في نسب التشغيل) تخطّت في جميع التقديرات نسبة الـ4 في المئة.
ويموّل كلّ ذلك نظام ضريبي ما زال، رغم تعديلات طرأت عليه أكثر من مرّة في عهد ساركوزي وفي عهد ماكرون الحالي لصالح رؤوس المال، من الأكثر تصاعدية في العالم.
ويطرح ما ذُكِر الكثير من التحدّيات على اليسار، إذ يجعل مطالبه الكلاسيكية أو التقليدية الخاصة بالتعليم العام والصحة والإسكان والعدالة الضريبية محدودة الجاذبية، ويدفع قواه الى البحث عن مداخل إصلاحية للقائم، وعن دعوات (ضرورية) للدفاع عن بعض خصائصه ولدعم النقابات العمالية والمهنية في مواجهة كلّ محاولة "يمينية" لتخفيض موازنات الانفاق الاجتماعي أو الحدّ من تدخّل الدولة في الدورة الاقتصادية أو تعديل قوانين الحماية الاجتماعية وعدم ملء وظائف في القطاع العام عقب تقاعد شاغريها. بمعنى آخر، أدّى تحقّق الكثير من شعارات اليسار الاشتراكي ومفاهيمه الاقتصادية الاجتماعية تدريجياً منذ ما بين الحربين العالميّتين، ثم على نحو متسارع بعد الحرب الثانية وفي حقبات مختلفة في النصف الثاني من القرن الماضي، الى تحويل الخطاب اليساري الفرنسي في ظل التحوّلات الدولية وتعميم النماذج الرأسمالية وتطوّر البنى الاقتصادية وحصول تبديلات عميقة في أدوار الدول والمنظومات الإقليمية، الى خطاب مدافعٍ عن المكتسبات أكثر منه ساعياً لانتزاعها. وهذا يتسبّب بارتباكات في لحظات انتخابية ليس موسمها موسم تفكير بنماذج بديلة جذرياً (في الاقتصاد والسياسة وفلسفتهما) عن السائد في فرنسا وفي العالم (رغم أهميّة الأمر)، بقدر ما هو موسم وضع لبرامج قابلة للتطبيق خلال خمس سنوات، هي مدّة ولاية رئيس الجمهورية.
السبب الثاني لتراجع اليسار، هو ضعف الحزب الاشتراكي الذي كان قاطرته الانتخابية منذ السبعينات، والذي تشظّى خلال رئاسة مرشّحه فرنسوا هولند نتيجة سياسات الحكومة التي قادها إيمانويل فالس، والتي لم تختلف في الكثير من المستويات عن سياسات اليمين الساركوزي ولم تُظهر حرصاً على المحافظة على إرث الدولة في مواجهة تقدّم المفاهيم الرأسمالية ومطالبة اليمين بإطلاق "حريّة الاقتصاد" وتقليص التأمينات الاجتماعية "غير المجدية". ثم أكمل مهمّة إضعاف الحزب الاشتراكي إياه إيمانويل ماكرون إذ استقطب الوسطيّين فيه الى برنامجه اليميني-الوسطي اقتصادياً واليساري-الوسطي لجهة القيم المجتمعية (الحرّيات الفردية وحقوق الأقليات الجنسية وقضايا الإجهاض وغيرها). يضاف الى ذلك أن صعود قوىً على يسار الاشتراكيين تجذب إليها حركات اجتماعية وتُظهر مرونة في الاستقطاب وجِدّة في البرامج (خاصة لجهة البيئة والتبدّل المناخي) أفقد الحزب الكثير من كوادره اليسارية وأخرجها نحوها أو نحو تجارب بعضها نما انتخابياً وبعضها الآخر ما زال في طور التكوّن ولا يبدو قادراً على خوض انتخابات جدّية.
السبب الثالث، ربطاً بسابقه، هو تعدّد الترشيحات اليسارية وبلوغها في
الانتخابات الحالية ثمانية، تشير استطلاعات الرأي الى تنازعها أقل من 28 في المئة
من الأصوات، أي أقل بأربع نقاط ممّا قد يحصل عليه مرشّحا اليمين المتطرّف وأكثر
بنقطتين أو ثلاثة فقط ممّا قد يحصل عليه إيمانويل ماكرون لوحده.
وإذا كان صعباً الوصول الى اتفاقات بين المرشّحين اليساريّين حول أبرز المسائل
السياسية والاقتصادية والاجتماعية المطروحة، فإنه في المقابل يمكن الوصول بين
بعضهم الى تسويات تقلّل عدد المرشّحين وتجذب ناخبين متردّدين أو محبطين الى
المتبقّي بينهم. فليس من المستحيل مثلاً أن يتفق البيئيون الخضر ومرشّحهم يانيك
جادو مع وزيرة العدل السابقة كريستيان توبيرا ومع مرشّحة الحزب الاشتراكي وعمدة
باريس آن هيدالغو لتبنّي ترشيح جادو الحاصل في جميع الاستطلاعات على نسبة تصويت
محتملة هي ضعف ما قد تحصل عليه توبيرا وضعفي ما قد تحصل عليه هيدالغو. وللثلاثة
مقاربات غير متناقضة تجاه أكثر القضايا الداخلية والخارجية، رغم بعض التمايزات في
ما خصّ الشأن النووي وقضية العلمنة ودور الشرطة. في المقابل، يصعب الاتفاق مع مرشح
"فرنسا العصية" الاشتراكي السابق جان لوك ميلانشون الأعلى ترتيباً بين
المرشّحين اليساريّين نتيجة مواقفه في السياسة الخارجية الداعمة لموسكو وبيكين
والمشابهة في هذا المجال لمواقف مرشّح الحزب الشيوعي فابيان
روسل (ولمرّشحي اليمين المتطرّف). والمشكلة بالتالي بين ميلانشون وروسل تبدو
تنظيمية أكثر منها سياسية، إذ يريد روسل إعادة الاعتبار لحزبه الذي انضمّ عدد من
كوادره لميلانشون في السنوات الماضية، واستعادة بعض جاذبيّته في أوساط عمالية باتت
أقرب الى اليمين المتطرّف من خلال استعارة مقولات شعبوية حول الهوية والقومية
الفرنسية...
وفي نفس السياق، يصعب على جميع المذكورين آنفاً
التوافق مع مرشّحي اليسار التروتسكي أو الثوري الثلاثة، المتنافسين على تصويت
محدود في أي حال (وليس من المضمون حصول اثنين منهم على التواقيع اللازمة لإستكمال
شروط الترشّح الرسمي).
وهذا كلّه لا يؤدّي الى تشتيت التصويت فحسب، إذ يستحيل كما ذكرنا توحيده أصلاً، بل يؤدّي أيضاً الى إبعاد ناخبين يساريّين كثر عن يوم الاقتراع أو دفعهم للتصويت الأبيض، أو حتى للتصويت لماكرون بوصفه "أهون الشرور" في مواجهة صعود اليمين المتطرّف الذي فرض على مرشّحة اليمين التقليدي (الجمهوري) فاليري بيكريس مجاراته شعبوياً وعنصرياُ (بما سيفيد بدوره ماكرون، لأنه سيدفع بعض اليمينيّين "المعتدلين" للانضمام الى اليمينيين-الوسطيّين الذين التحقوا به منذ فتر ة والتصويت له لولاية ثانية).
أما السبب الرابع في تراجع اليسار، فهو انفلات الخطاب العنصري من عقاله في فرنسا والهوس بالإسلام والسعار تجاه المهاجرين واللاجئين الذي تروّج له وسائل إعلام مرئية ومسموعة، مملوكة من أباطرة أعمالٍ داعمين لليمين المتطرف، بما يجعل الشعارات المهيمنة على الحملة الانتخابية على صلة بقضايا حاول اليسار تجنّبها في السابق وبات اليوم مُلزماً بالتموضع الصريح تجاه تفاصيلها. وفي الأمر ما يربك بعض مكوّناته التي تحاول انتخابياً الموازنة الحذرة بين قيم يسارية تاريخية متسامحة مع التنوّع وبين واقع باتت فيه قيم العنصرية هي منطلق النقاش والسجال، حيث تفرض ربطاً بين مسائل الأمن و"الإرهاب" التي تقلق قسماً كبيراً من الفرنسيين وبين مسائل الهجرة واللجوء والتعدّد الثقافي. ولم ينجح اليسار تماماً في الردّ على هذا الربط وفي تفكيكه، نظراً لوجود "علمانويّين" في صفوفه لا يقاومون "الإسلاموفوبيا" الزاحفة من جهة، ولوجود مقاربات مناقضة للأمر من جهة ثانية لم تقدّم أجوبة عن أسئلة ليست معدومة المشروعية في ما خصّ الدين وموقعه في الحياة السياسية وتطوّر الأمر نتيجة تبدّل المجتمع الفرنسي وديموغرافيّته.
لهذه الأسباب ولسواها، تبدو الانتخابات المقبلة محطّة ستشهد أسوا نتيجة لليسار
في جميع أطيافه المتقاربة والمتنازعة.
وإذا كان الدفاع عن مكتسبات انتزعتها نضالات وتشريعات على مدى تاريخ طويل لا
يتوقّف على نتيجة الانتخابات لوحدها، وإذا كان دعم مهن الطبابة والعناية
الاجتماعية والتعليم وتحسين شروط العاملين فيها يستدعي كفاحاً مستمراً يتخطّى
المحطة الانتخابية، ومثله الضغط لعدم تقليص الضرائب على رؤوس المال الكبيرة ومنع
الإعفاءات و"الهدايا" الضريبية، وكذلك العمل لمواجهة حملات الكراهية
ولتعديل المقاربات الأمنية تجاه أحياء شعبية وضواح بأكثريات مهاجرة متروكة بلا
خدمات تنموية جيّدة، فإن بلورة مقاربات يسارية
جديدة، آنية وكفلسفة سياسية واقتصادية ومجتمعية مستقبلية، تتطلّب جهوداً لا يبدو
أن مسؤولي اليسار الحاليّين يقومون حتى الآن كفايةً بها...
مقال منشور في ملحق القدس العربي