Monday, February 7, 2022

صورة روسيا في مخيّلتين غربيّتين يساريّة ويمينيّة متطرّفة

تحوّلت روسيا منذ حوالي العشر سنوات الى فاعل سياسي دولي يملك بعض خصائص القوّة العظمى، رغم كون اقتصاده متوسّط الحجم وبطيء النموّ (تحتلّ روسيا المركز الحادي عشر عالمياً)، ويجذب بموازاة عدوانيّته العسكرية، المباشرة في بلدان عديدة (من جورجيا الى أوكرانيا وصولاً الى سوريا) وغير المباشرة عبر مرتزقة شركة "فاغنر"، تأييداً في مناطق عانت تاريخياً من هيمنة سياسية واقتصادية وأحياناً حربية أمريكية أو استعمارية غربية (بريطانيّة وفرنسيّة بخاصة).

وإذا كان ذلك يُفسَّر بردّة فعل أو بنكايةٍ أو ببحثٍ عن قويّ يواجه أقوياء آخرين مارسوا ويمارسون القسوة والاستغلال، فإن تفسيره المذكور لا يستقيم إن دقّقنا في مواقف أطراف سياسية في الغرب، بعضها يساريّ وبعضها الآخر يمينيّ متطرّف.

وهم الحرب الباردة والحنين السوفياتي

فعلى مستوى اليسار، ثمة انبهار بموسكو وبفلاديمير بوتين في أوساط جلّها شيوعي أو حامل لخطاب شعبويّ (غاضب على القائم من دون برنامج بديل قابل للتطبيق). ومردّ انبهاره، الذي حلّ مكان نقمة عارمة على ضعف آخر رئيس سوفياتي (ميخائيل غورباتشيف) وأول رئيس روسي (بوريس يالتسين)، توافقٌ على كراهية الولايات المتحدة لنموذجها الاقتصادي ولأحادية تسيّدها المسرح الدولي وتدخّلها في ساحاته لعقود طويلة، والتوق لصعود قطب يتحدّاها أو يفرض عليها التنازلات، من خلال تحالفات واسعة وتدخّلات مضادة. ويُعطف على ذلك وهمُ استرجاع حربٍ باردة تذكّر بالحقبة السوفياتية وبالمواجهة الدعائية بين موسكو وواشنطن وبالاصطفاف القديم تجاهها.

ويَسقط من بال هؤلاء أن الحقبة الآفلة تلك حملت صراعاً إيديولوجياً هو الذي أسّس للحرب الباردة، وأن الشيوعية (بصيغتيها السوفياتية والصينية) طرحت نفسها يومها بديلاً عن الرأسمالية وأفقاً جديداً للبشرية، في حين أن الاقتصاد الروسي اليوم (ومثله الصيني الأكبر حجماً والأكثر تطوّراً وتوسّعاً) رأسمالي شديد الاختلالات الطبقية وتركّز الثروات، والنموذج الذي تحاول موسكو اعتماده لا يدّعي أكثر من الركون الى اقتصاد السوق (المنفلت من الضوابط)، مع المحافظة على هياكل الدولة المركزية التسلّطية وأجهزتها الثقيلة البيروقراطية والقمعية ورفض "القيم والمفاهيم الاجتماعية والثقافية الغربية" وآليات عمل العديد من المؤسّسات السياسية والقضائية الديمقراطية.

الصفاء العرقي والعداء للهجرة وللتنوّع

غير أن الأكثر تأثيراً راهناً في ما خصّ التأييد لموسكو في الدول الغربية، هو موقف اليمين المتطرّف الذي باتت قواعده الشعبية أوسع من قواعد التيارات الشيوعية واليسارية الشعبوية، وخطابه ومفاهيمه أكثر حضوراً في وسائل الإعلام المرئي والمسموع وفي مواقع التواصل الاجتماعي وفي السجالات السياسية اليومية والموسمية الانتخابية.

فهذا اليمين، المبلور برامجه وهويّته انطلاقاً من مركّب كراهيات للمهاجرين والمسلمين والسود وللأقلّيات الجنسية وللحركات النسوية كما للنخب السياسية والاقتصادية (وأحياناً الثقافية) المسمّاة بالـ"إستبلشمنت"، يجد في روسيا وفي بوتين كلّ ما يجسّد رغباته ويعبّر عنها. فمن الخطاب القومي، الى صفاء العرق الأبيض المسيحي (وموقع الكنيسة القريب من القرار السياسي في الكرملين)، الى المواقف الذكورية ورفض المساواة بين النساء والرجال وإشهار احتقار المثلية الجنسية، وصولاً الى التشكيك الدائم بكل ما يصدر عن "الإستبلشمنت" الغربي، يجد اليمين المتطرّف الأوروبي والأمريكي في موسكو ضالّته، ولا يشذّ عن الأمر سوى بعض البولونيين والهنغاريّين والأوكران والتشيك وسواهم في أوروبا الشرقية لأسباب تاريخية قومية (ومذهبية) ولمراعاة خوف في مجتمعاتهم من تجارب الماضي السوفياتي القريب.

كما أن معاداة السامية المشتركة بين الأوساط الكنسية والقومية الروسية وتيارات التفوّق الأبيض والحركات الفاشية الأوروبية والأمريكية، المقرونة بتأييدٍ لإسرائيل لتجميعها اليهود بعيداً عن مجتمعاتهم، ولقتالها عرباً ومسلمين واستعمارها أرضهم، تشكّل عنصر تلاقٍ آخر سياسي وقيميّ مع موسكو.

بهذا المعنى، تمثّل روسيا في المخيّلة اليمينية المتطرّفة نقيضاً للتعدّد الثقافي والإثني الأمريكي مثلاً (الذي لم تكفِ ولاية واحدة لدونالد ترامب لمحو صورته التي جسّدها انتخاب باراك أوباما مرّتين وصعود حركات مناهضة العنصرية). كما أنها تعادي مثلهم الوحدة الأوروبية وتبحث عن تشجيع النزعات الانكفائية ورفض الهجرات، وتشجّع نظريات المؤامرات وزرع الشك في العقول حول كل خطاب رسمي أو معطيات علمية عبر شبكة مواقع وأجهزة إعلام أنشأتها ابتداءً من العام 2006 لهذه الغاية. ذلك أن استراتيجية التشكيك بكل الأمور تجعل "الحقيقة" في كل الميادين نسبية، وتُتيح رفض ما لا يتوافق من تقارير سياسية أو اقتصادية أو حقوقية أو طبية أو بيئية أو توثيقية لجرائمَ وانتهاكات مع مصالح موسكو. وهذا يكفي بالنسبة للروس لمواجهة خصومهم الغربيّين وآلتهم الإعلامية العملاقة من خلال اعتبار ما تردّده على الدوام أكاذيب أو مزاعم لا شيء يثبتها. وليست بالتالي مصادفة أن أوساط اليمين المتطرّف الأوروبي والأمريكي اليوم هي الأكثر اعتماداً في تكوين "ثقافتها" السياسية ومواقفها على وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع الأخبار المرتبطة مباشرة بروسيا.

فوق ذلك، شكّلت الحرب الروسية في سوريا، والادّعاء بالدفاع عن الأقليات المسيحية في وجه خطر إبادتها، عنصر جذب إضافي لليمين المتطرّف، تمجيداً للقوة العسكرية "البيضاء" ولسحقها "سكّاناً أصليّين" وإسلاميين و"جهاديين" هم مشاريع هجرة الى الغرب وضواحي مدنه.

بكل هذا، تتقاطع المواقف وتتشابك تجاه موسكو بين تيّارات يسارية ويمينية غربية يفترض أنها على النقيض قيَمياً وسياسياً. كما تتقاطع هذه المواقف في ما يخصّ الرفض المشترك لرزمة العقوبات التي فرضتها الولايات المتحّدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي على روسيا منذ تحوّلات الأزمة الأوكرانية وضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم العام 2014. ويجد الرافضون في العقوبات دليلاً جديداً على التآمر لعرقلة الصعود الروسي، بما يماثل ما يعدّونه تواطؤاً ضدّهم في الدول الغربية ذاتها لمنع وصولهم الى السلطة وللإبقاء على السياسات الراهنة التي تحول دون الإصلاحات الاقتصادية التي ينادي بها اليساريون المعنيّون هنا، ودون العودة الى الصفاء العرقي والانعزال القومي اللذَين يعدّهما اليمين المتطرّف جوابه على الأزمات والتحدّيات التي تواجه المجتمعات الغربية.

وموسكو، الراضية تماماً عن ذلك، تشجّعه مباشرة عبر رعاية اجتماعات واستضافة سياسيين وتأمين حضور إعلامي لهم على وسائل إعلامها وفي شبكات التواصل التي يديرها "جيشها الإلكتروني". وتشجّعه أيضاً عبر محاولات التأثير في نتائج الانتخابات والاستفتاءات، وعبر نشر ما يذكّر دورياً بأكاذيب سياسية أمريكية وأوروبية (هي بالفعل أكاذيب) لدحض الاتهامات المُكالة عليها في ملفّات عديدة، أوكرانية وسورية مثلاً، وإحالتها الى الدعاية الغربية القديمة (كتلك التي ردّدتها واشنطن لتبرير الحرب على العراق العام 2003) أو الى المكائد ورفض القبول بعالم لا يستفرد طرفٌ بقيادته.

ولا يبدو أن كلّ هذا في طريقه الى التراجع أو الانحسار في المقبل من الأيام.

زياد ماجد

مقال منشور في ملحق القدس العربي