تتواصل حرب فلاديمير بوتين على أوكرانيا
وتتقدّم قواته ببطء على محاور القتال.
على أن تقدّمها هذا الذي سيستمرّ في القادم من الأيام لا يبدو قادراً على فرض واقع سياسي "نهائي" أو على تحقيق إنجازات كبرى لسيّد الكرملين.
أهداف عسكرية أربعة وخلل في التقديرات الميدانية والسياسية
يمكن إيجاز أهداف الغزو الروسي لأوكرانيا
بأربعة.
الأول، تأمين سيطرة الانفصاليّين على كامل
إقليم دونباس شرق البلاد لإلحاقه كما جزيرة القرم
بروسيا.
الثاني، الاستيلاء على الساحل الأوكراني وعلى
الموانئ في بحر أزوف والبحر الأسود.
الثالث، تفكيك البنية العسكرية الأوكرانية
بعد تدمير قطاعاتها الرئيسية.
والرابع، محاصرة كييف وخاركيف وعدد من المدن ثم
اجتياحها لإسقاط الحُكم واستبداله بحكومة مؤقتة موالية لموسكو.
كل ذلك وفق استراتيجية بدأت منذ صعود بوتين
خلال حرب الشيشان الثانية وتبلورت في جورجيا ثم في أوكرانيا وكازخستان وروسيا
البيضاء، وأفقها استعادة السيطرة الروسية أو التأثير السياسي الحاسم على الجمهوريات التي كانت سوفياتية، على أساس
"إيديولوجيا" روسيا الكبرى (القيصرية).
ومن الواضح حتى الآن أن الأهداف العسكرية تتحقّق تباعاً، ولَو ببطء. فمعظم المطارات وقطع سلاح الجو وغرف العمليات والرادارات الأوكرانية جرى تدميرها ومثلها قواعد الصواريخ.
والجزء الأكبر من الوحدات المدرّعة الأوكرانية
محاصرة في الشرق والجنوب والجنوب الشرقي ومضطرة للقتال حتى النهاية إذ أن انسحابها
نحو وسط البلاد أو شمالها يعرّضها للقصف الجوي ولا طيران أوكراني يحميها.
والقوات الروسية المهاجمة من جهة جزيرة القرم وتلك القادمة من دونباس (حيث توسّعت سيطرتها) باتت قريبة من الالتقاء وأحكمت الحصار على مدينة ماريوبول، ويمكن لعمليّاتها أن تستمرّ لاحتلال جميع الموانئ والمدن الساحلية الأوكرانية، بما فيها أوديسا على البحر الأسود. أما العاصمة كييف، فمقبلة على معارك وقصف، وخيار الرئيس زِلِنسكي بات الانسحاب نحو مدينة لفيف على الحدود البولونية والتحوّل لرئاسة حكومة مقاومة وتحرير فيها، أو البقاء في مقرّه ثم التخفّي إن اجتاح الروس المدينة.
لكن من الظاهر رغم التقدّم الروسي أن تقديرات
بوتين في ما خصّ سير العمليات ونتائجها وكلفتها كانت خاطئة، مما سيصعّب ترجمة
الحسم العسكري الى حسم سياسي. فقد أرادها حرباً تنتهي بأيام تلي الضربات الجوية
والصاروخية المكثّفة التي شنّها جيشه في الساعات الأولى. فإذا بالمقاومة
الأوكرانية تُظهر بسالةً وتُنزل بالروس خسائر فادحة وتُلزمهم بتمديد عمليّاتهم
وحشد المزيد من القوات والآليات. وهذا سيجعلهم لاحقاً عرضةً لحرب عصابات ولعمليّات
تنهك احتلالهم وتزيد من خسائرهم.
وبوتين أرادها صاعقة سياسياً على الرئيس الأوكراني وحكومته بما يدفعهم للفرار، فإذا بأدائهم وقيادتهم لمقاومة الغزو يسجّلان تفوّقاً في الحرب الإعلامية بين الطرفين ويُظهران شجاعة وتماسكاً يساهمان في دفع المقاتلين الأوكرانيين لرفض كل استسلام ويزيدان من التعاطف الشعبي، ويجعلان تشكيل موسكو لحكومة بديلة مجرّد مناورة ستأتي بعملاء لا قيمة لهم ولا وزن.
وعلى المستوى السياسي، برزت في حسابات بوتين
رداءة على أكثر من صعيد. فقد ظنّ أن استخدام القوة العسكرية وتحدّي "الغرب"
وإحالة المسألة برمّتها الى صراع مع "عملاء لأمريكا" في أوكرانيا ومع "حلف
شمال الأطلسي" الذي يريد التوسع وتهديد روسيا، أو مع حكومة "نازية"
في كييف، كفيلة لإحداث انقسام سياسي دولي يوفّر بعض "المشروعية" لعملية
غزوه.
كما ظنّ أن تباينات مواقف الحكومات الأوروبية
المعهودة في سياساتها الخارجية وانعزالية الولايات المتحدة المتزايدة منذ العام
2009 ودعاية أنصاره كافية للتسبّب بتصدّعات في "المعسكر الغربي"، وأن
التصدّعات هذه ستحول دون اتخاذ عقوبات كبيرة ضد نظامه.
وتبيّن تباعاً أن جميع الحسابات المذكورة كانت
خاطئة. فلصالح روسيا لم تصوّت في الجمعية العامة للأمم المتحدة سوى كوريا الشمالية
وأريتريا وسوريا وبيلوروسيا، في حين تمنّعت الصين وإيران وكوبا ومعها 31 دولة عن التصويت،
وصوّتت ضد الغزو الروسي ودعت لوقفه الفوري 141 دولة.
وعلى جبهة أوروبا، لم يسبق لدولها أن توحّدت مرة في السياسة الخارجية كما توحّدت هذه المرّة ضد بوتين، لقناعة لدى الاوروبيين أن حرباً في قارّتهم على هذه السعة والخطورة هي تهديد مباشر لفكرة الاتحاد الأوروبي ولأمنه ولإمكانية استمراره. حتى ألمانيا، التي تحاذر كل تصعيد في العلاقات الدولية وتتفادى التوتّرات منذ العام 1945 لم تخرج عن الإجماع الأوروبي أو تعرقل قرارات العقوبات الأقسى التي اتّخذها الاتحاد ضد موسكو، والتي أكملت القرارات الأميركية، وتسبّبت في بضعة أيام في تهاوي العملة الروسية وفي فصل النظام المصرفي الروسي عن نظام الـ"سويفت" العالمي، وفي تجميد مئات مليارات الدولارات العائدة للبنك المركزي أو لأثرياء من محيط بوتين المباشر، إضافة الى إقفال المجال الجوي الأوروبي في وجه طائرات النقل الروسي وبدء انسحاب الشركات والخدمات الغربية من روسيا.
خريطة عالمية سياسية جديدة
هل يعني كلّ ما ورد أننا أمام مرحلة إعادة تشكيل للخريطة السياسية العالمية وللعلاقات الدولية؟ الأرجح أننا نسير في هذا الاتجاه، ولو أن رسوّ الأمور قريباً على توازنات أو تعريفات جديدة وطويلة الأمد لن يتمّ. ويمكن في هذا السياق إيراد ثلاث مسائل.
الأولى، أننا وصلنا الى هذه الأوضاع اليوم بسبب ترك العالم الرئيس الروسي يخوض حروبه في العقد السابق من دون عقوبات قاسية كالتي أُنزِلت به وبنظامه اليوم. ولا شك أن سبع سنوات من الحرب الروسية في سوريا ومن الجرائم التي ارتُكبت والأسلحة التي جُرّبت والتدمير الذي استَهدف المستشفيات والبنى التحتية المدنية تحت مسمّى "محاربة الإرهاب" من دون إجراء قانوني أو عقابي واحد من قبل المؤسسات الدولية والحكومات الغربية والعربية، وفّرت لبوتين "حصانة" وجعلته أكثر قابلية للاستمرار واستخدام العدوان العسكري وسيلةً لحسم خلافات أو لفرض وقائع.
المسالة الثانية، أن تهميش الأمم المتّحدة في القرن الحالي، بدأ فعلياً حين شنّت الولايات المتحدة الأمريكية حربها على العراق العام 2003 (بمشاركة بريطانيا) رغم رفض مجلس الأمن الدولي للحرب وتصويته ضدها. وشكّل الأمر سابقةً باتت روسيا اليوم والمدافعون عنها يتذرّعون بها لتبرير حروبهم، بما جعل المؤسسة الأممية محدودة القدرة على إدارة الأزمات ومنع الحروب أو وقفها. ولا يزيد من وهنها ومحدودية قدراتها سوى تمتّع خمسة من أعضائها بحق النقض – الفيتو – بما يعطف على الوهن انعدام عدالةٍ وشللاً دورياً.
والأمر الثالث، أن عالمنا خرج من الأحادية
القطبية التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي، لكنه لم يتشكّل من جديد وفق ثنائية أو
ثلاثية أو رباعية قطبية. فلا روسيا قطب مواز لأمريكا، إذ أنها قوة عسكرية من دون
ثقل اقتصادي وسياسي حاسم وبديموغرافيا مترهّلة ومتراجعة؛ ولا الصين قطب مكتمل
القوة، فثقله الاقتصادي لم يتحوّل الى ثقل سياسي أو عسكري عالمي بعد؛ ولا أوروبا يمكن
اعتبارها كوحدة سياسية واقتصادية قطباً مستقلاً أو متمايزاً عن واشنطن. وهذا يعني أن
مقولة العودة الى الحرب الباردة خاطئة في تعريفها، لأن لا معسكرين منسجمين (أو
أكثر) يتواجهان فيها، ولأن المشروع المجتمعي (السياسي والاقتصادي) لم يعد منطلق
فرز بين القطبين المفترضين. فحتى لو اعتبرنا أننا نظريّاً أمام منظومتين اليوم، واحدتهما
رأسمالية مع حرّيات سياسية وانتخابات وتداول سلطة، وثانيتهما رأسمالية أيضاً لكن
مع نظم دكتاتورية أو تسلّطية لا حرّيات فيها ولا انتخابات، لوجدنا أن المواقف
والتحالفات واقعياً لا تتبع القسمة المذكورة دائماً بل تتداخل وتتبدّل طبقاً للظروف.
وهذا يدلّل على أننا في عالم ما زال لقوة وحيدة التفوّق فيه، لكنّها لم تعد قادرة لوحدها على فرض خيارات أو لجم سياسات لا تناسبها.
وحرب أوكرانيا ومآلاتها المتوسّطة والطويلة
الأمد هي اليوم بمثابة الاختبار الأكثر جدّية لشكل العلاقات الدولية المستقبلة. فروسيا
التي خاضت حروباً على حدودها وخارجها في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد الانكفاء الأمريكي
العسكري دولياً إثر حربَي العراق وأفغانستان (وتداعياتهما)، ذاهبةٌ إن انهار
اقتصادها وفشلت حربها الأوكرانية سياسياً (رغم سطوة عسكرية) الى فقدان احتمالات
قطبيّتها. ولعلّ في ذلك بعض ما يفسّر الهستيريا البوتينية والتردّد الصيني في
دعمها وقسوة العقوبات الغربية ضدها.
ولعلّ فيه أيضاً ما يشير الى أن أثماناً شديدة الكلفة ستدفعها دول وشعوب قبل رسّو التوازنات الكبرى على معادلات مستديمة...
زياد ماجد
مقال منشور في ملحق القدس العربي