تبدو مدرّجات ملاعب كرة القدم المهجورة رغم استمرار المسابقات واحتدام البطولات وإتمام الصفقات والتعاقدات من أكثر ما يجسّد المفارقات والتناقضات التي عشناها طيلة العام 2020 وإيقاعاته المتباينة.
فمشاهدة المباريات عبر الشاشات ومتابعة النتائج والتعليقات عليها يعطيان الانطباع لوهلة أن الأمور طبيعية، وأن الزمن الناظم للأسبوع وفق جدول كروي لم يتبدّل، ومثله البثّ المباشر وما نقف عليه من جهد وحركة وسرعة على أرض الملعب مضبوطة جميعها الى ساعة حكمٍ تعلن بدايةً ونهايةً وأوقاتاً مستقطعة. لكن مفاجأة سماع أصوات اللاعبين والمدرّبين والحكّام إذ يتبادلون بعض العبارات أو التعليمات والاستفسارات أو يصرخون فرحاً أو استياءً أو ألماً، يذكّرنا أن صمتاً ثقيلاً يُحيط بهم أتاحه غيابُ المشجّعين عن المدرّجات، وأنهم في موقع معزول ومسيّج بالحواجز ومنع المرور، يركضون وحيدين داخله ويحتفلون أو ينكسرون أمام عدسات هي منفذهم الوحيد الى مشاعر البشر الآخرين وانفعالاتهم. كأنّهم يمثّلون اللعب أمام الكاميرات لتنقل لنا ما يفعلون، فنمثّل بدورنا ونُسرّ أو نسأم كما لو أننا في أمسية حياة عادية اقتطعنا منها على سابق عهدنا وقتاً للمباراة المنتظرة وحماسها.
ويتواطأ الإخراج التلفزيوني مع حفل التمثيل هذا، فيبثّ المخرج بين الحين والآخر أصوات جمهور "افتراضي" يرافق الحركة ووتيرة التنافس في الملعب ويتفاعل مع تطوّراتها، وكأنه يريد إقناعنا بأصالة حدث وحقيقة ركلة أو هدف أو فرصة ضائعة وبوجود أشخاص نرى مجسّمات تستحضر ألوانهم وراياتهم على مقربة من المرمَيَين بغية تزيين المشهد وإضفاء "واقعية مصطنعة" عليه.
على أن تجربة التمثيل هذه رغم جدّيتها وتكامل ملامحها لا تقتصر على مباريات كروية أو مشاهدات تلفزيونية. فقد ارتبطنا بها أيضاً طيلة العام المنصرم بعملنا وعلاقاتنا وبلغتنا الجديدة. صرنا ندرّس أو نحاضر أو نناقش أو نجتمع عبر التوجّه الى النور الصغير المنبعث من أعلى شاشة الكمبيوتر أو الهاتف، ونتخيّل أن وراءها جمعاً يتابع ويراقب وينصت وتتبدّل تعابير وجوهه، فنختار مواضع في المنزل أو المكتب تحدّ أو تبيح الدخول الى أماكننا الشخصية الحميمة لنتحدّث منها. وبتنا الى التمثيل أقرب إن التأمنا مهنياً أو دُعينا الى ندوة، فتَسجّلنا عبر أجهزتنا وألقينا التحية لإثبات حضور، ثم احتجبنا خلف شاشاتنا وتركنا لها وللميكروفون المعطّل طوعاً أن يقيا خصوصيّتنا وانشغالاتنا الموازية للاجتماعات وللمشاركين فيها. وهؤلاء، دخلت مثلنا، كلمات "سكايب" و"مسينجر" و"زوم" و"تيمز" و"واتس آب" الى مفرداتهم اليومية والوظيفية، فصاروا قبل استحضارها أو استخدامها، ينتقون المواعيد والزوايا التي يؤثرون الانكشاف البصري فيها، أو يكتفون بالتخاطب السمعي الحامي خصوصياتهم ووجوههم المحجوبة لأسبابهم واعتباراتهم المتنوعة عن أعين المخاطبين. وفي ذلك أيضاً، كما في اللقاءات "غير الرسمية"، بما فيها الأكثر ودّاً، مقدار من التمثيل والإخراج وهندسة الضوء والديكور والصوت لإرضاء شاشة وإرضاء ذات وتقديم مشهدية منتقاة ترافق الكلام، فتبدو وكأنها تمثّل سياقاً عاديّاً سابقاً للكمّامات المخبّئة الأفواه والأنوف التي لم يعد بوسع أحدٍ الظهور العلني خارج الشاشات من دونها، أو من دون نظرات الريبة والاستهجان ومحاذير العقاب لغيابها.
بهذا المعنى، صار للخروج من الشاشات الى الفضاء العام في الأوقات المُجازة طقوس مختلفة، لا تبقي من الوجوه سوى العيون، فيبدو في ارتداء الكمّامات وتعقيم الأيادي وتجنّب اللمس والاحتضان طقوس عروض أو تنكّر محترفة يُراقَب خلالها "الممثلون" الآخرون بتوجّس أو بمعزّة وتلاقٍ لا تلتقطه غير النظرات، ويُبقي الجميع على فراغات بينهم يخالونها تحايلاً على الفيروس الباحث عن جسد يستقرّ فيه ليحيا.
لكن التمثيل على مدى عامٍ كامل عمل شاق. فهو صنعة إلزامية ثقيلة فوق المهنة، يعلن الركون إليه استسلاماً لاعتبار يُفترض أنه مؤقّت، وأن المؤقّت سيّء وليس منه مفرّ، ولو طال وفرض شروطه. فكيف وأن سببه أصلاً الهروب من مرض أصاب المعمورة بمقتل، وعدّل الكثير من أوجه الحياة فيها. قطّع بعض أوصالها حائلاً دون السفر والتنقّل والزيارات، وظهّر المظالم والاختلالات الاجتماعية والاقتصادية فيها وعمّقها، وتسبّب بموت مئات الألوف وبمفاقمة بطالة وباستغلال إضافي للفئات المستضعفة اجتماعياً وسياسياً...
بالمرض وآثاره وبالتمثيل اليومي بسببه إذاً، ينقضي العام 2020 مع أمل لا يتخطّى الرغبة عند الكثيرين بالحصول على ترياق – لقاح يُعيد العالم في العام 2021 الى العام 2019، ليُصار الى استئناف حياة معلّقة وأخذ استراحة من التمثيل والشاشات والكمّامات وكآبة المدرّجات الخالية واستذكار كل ذلك يوماً بوصفه معالم عام "إفتراضي" ولّى غير مؤسوف عليه.
زياد ماجد
مقال منشور في ملحق القدس العربي