دخلت فلسطين والعالم العربي
في العامين 2011 و2012 مرحلةً جديدة. فقضية الأولى عرفت تقدّماً سياسياً وديبلوماسياً دولياً
بلغ أوجه عند صدور الاعتراف الأممي بالدولة الفلسطينية ثم انضمام الأخيرة الى عدد
من المنظمات الدولية وفي طليعتها اليونيسكو. والثاني شهد ثورات في تونس ومصر
وليبيا والبحرين واليمن وسوريا بعثت أملاً بالتغيير وتحرير المجتمعات والأفراد من
عقودٍ من الاستبداد والقهر. لكن التراجع ثم الانحدار جاءا سريعاً في الحالين بعد
ذلك. ففي فلسطين، تصاعدت شراسة إسرائيل الميدانية وتعمّقت الانقسامات الداخلية
الفلسطينية وعجزت قيادة السلطة ومثلها حماس عن إطلاق مبادرات مصالحة أو ديناميات
سياسية تلجم تدهور الأوضاع وتقلّص رقعة أضرارها. وشنّت إسرائيل حرباً تدميرية على قطاع
غزة العام 2014، كرّست خلالها عزلة القطاع عن باقي الأراضي الفلسطينية المحاصرة بدورها
والمقطّعة أوصالها بالمستوطنات والطرق الالتفافية والجدار والحواجز العسكرية. وفي
العالم العربي (مع استثناء تونسي)، أدّت الثورات المضادة وتعثّر التجارب
الانتقالية والتمزّقات المجتمعية، وضراوة القمع والمذابح والتهجير والتدخلات
العسكرية الايرانية والروسية في سوريا، والسعودية والايرانية في البحرين واليمن،
وصعود "داعش" واحتلاله مناطق واسعة في العراق وسوريا ثم التدخّل
الأميركي ضدّه، الى مآسي وخراب أطاحت ابتداءً من العام 2013 باحتمالات التغيير
والتحرّر.
ويصعب القول بعلاقة سببية
حصرية بين الوضعين الفلسطيني والعربي في كامل المرحلة تلك. إذ لم تكن أنظمة العالم
العربي قبل العامين 2011 و2012 بأي حال سنداً للفلسطينيّين، ولم يكن ما يُسمّى
بالاستقرار في البلاد المحكومة بأنظمة القمع والفساد مدعاة تحصين للقضية
الفلسطينية. وإن كانت فسحة انطلاق الثورات العربية قد أثارت مواقف متناقضة من
أثرها المحتمل على فلسطين، بين معتبرٍ إياها فرصة لتحرير شعوبٍ مساندة للفلسطينيين
من نير أنظمة برّرت كثرة من موبقاتها ضدّهم باسم فلسطين إياها، وبين قائل بإمكانية
تسبّبها بتراجع الاهتمام بفلسطين وحجب أخبارها، فإن ما تبعها من صراعات وفظائع عدّل
من وجهة التناقض المذكور. ذلك أن التحرّر من الأنظمة لم يتمّ، وجرائم الأخيرة ضد
المدنيّين، وفي طليعتها جرائم النظام السوري ضد السوريين والفلسطينيين السوريّين –
في مخيم اليرموك بخاصة – زاحمت جرائم الاحتلال الإسرائيلي وفاقتها توحّشاً، وتناوبت
كلّ منها على الاستئثار بالتغطية على حساب الأخرى لفترة.
بهذا يمكن الزعم بأن الوضعين
الفلسطيني الداخلي والعربي العام اليوم، رغم ثورتي السودان والجزائر المندلعتين
مطلع العام 2019 وما تحملانه من علامات تُظهر أن التوق للحرية لم ينهزم تماماً في
المنطقة، هما في حال من التهتّك لم يُشهد له مثيلٌ منذ عقود.
على أن الفارق الأبرز، أن
الأوضاع الدولية في ما يخص القضية الفلسطينية من جهة وقضايا التحرّر العربي من
الأنظمة الحاكمة من جهة ثانية ليست متماثلة. فمقابل ثقافوية غربية لا ترى في قيَم الديمقراطية
وحقوق الإنسان ما يمكن أن يصلُح لدنيا العرب، ثمة ميل متصاعد عالمياً، إذا ما استثنينا
مواقف الإدارة الأميركية، لدعم حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم طالما أنه موجّه ضد
احتلال خارجي وفق قوانين وقرارات أممية وإجراءات حلّ نزاعات مُتوافَقٌ على مبادئها
العامة.
وهذا يُحيلنا الى تساؤل
فلسطيني يتخطّى الواقع العربي محدود التأثير فيه نحو البحث عن أسباب المفارقة، أو البارادوكس،
بين "الخارج الدولي" المتحسّن تجاه الحقوق الفلسطينية والداخل الفلسطيني
المُتراجعة في نفس الوقت أحوالُه وشروط مواجهته للضغوط الإسرائيلية، والأميركية
منذ وصول ترامب الى البيت الأبيض.
عن "الخارج"
و"الداخل" فلسطينياً
يفيد التذكير بدايةً أن 138 دولة في العالم تعترف الآن
بفلسطين، العضو المراقب في الأمم المتحدة والكامل العضوية في العديد من المنظمات
الدولية، وأن التصويت في الجمعية العمومية على حقّ تقرير المصير الفلسطيني صار يحصد
(كما جرى العام 2017) 176 صوتاً مؤيّداً، مقابل 6 أصوات معارضة (بينها صوتي
إسرائيل والولايات المتحدة). يحدث هذا في وقت يُعلن العديد من المثقفين والهيئات المدنية
والأحزاب السياسية والنقابات والمؤسسات الحقوقية في أوروبا والعالم تضامنهم مع
الفلسطينيين أكثر من أي وقتٍ مضى، ويذهب بعضهم الى حدّ المطالبة بعقوبات سياسية
واقتصادية على تل أبيب.
لماذا هذا التناقض الصارخ إذاً؟ ولماذا لا يبدو
الفلسطينيون قادرين اليوم على قطف ثمار ما يزيد على نصف قرن من الكفاح والمعارك
والتضحيات التي أثمرت أخيراً اعتراف قسم كبير من المجتمع الدولي ببعض حقوقهم
السياسية؟ وما الذي يمكن لأفراد وجماعات يشتغلون في الحقول الثقافية فعله دعماً
للقضية الفلسطينية؟
للإجابة، يمكن التوقّف عند عامِلَين، ثم البحث عمّا
يمكن القيام به خارجهما.
العامل الأوّل، هو العجز الفلسطيني في مواجهة تطرّف وعدوانية
حكومات إسرائيلية متعاقبة منذ العام 2009، من اليمين وأقصى اليمين، تثابر على
توسيع المستوطنات في الضفة والقدس الشرقية وبينهما، ساعية الى تحقيق عملية
"إبادة سياسية" للكيانية الفلسطينية وللقضية بأسرها. وقد مرّرت حكومة
نتنياهو في شباط/فبراير 2017 قانوناً جديداً يُبيح ضمّ الأراضي الفلسطينية الخاصة
(علماً أن الأراضي العامة قابلة للضم أو جرى ضمّها وفق قوانين سابقة). ووعد نتنياهو
بضمّ أراضي محتلة الى إسرائيل رسمياً في حملته الانتخابية في مطلع نيسان/أبريل
2019. يضاف الى هذا تنفيذ الرئيس الأميركي لعملية نقل السفارة الى القدس، بما
يُنهي مرحلياً احتمالات حل الدولتين، من دون أن يعني احتمال حل الدولة الواحدة الذي
يرفضه الإسرائيليون أصلاً بأغلب أطيافهم.
العامل الثاني هو تشظي الحركة الوطنية الفلسطينية
وتمزّقها سياسياً وحتى ترابياً، وترهّلها وسوء إدارتها للأحوال الفلسطينية ونشوء
طبقة مستفيدة من الأوضاع الراهنة وصامتة عن الانتهاكات الإسرائيلية (والعربية، لا
سيما في سوريا) ضد المدنيين الفلسطينيين.
في مواجهة هذين العاملين وآثارهما المعطِّلة لمفاعيل
التقدم الذي أحرزته القضية الفلسطينية ديبلوماسياً، يبدو الاشتغال على مستويَين هو
الممكن اليوم من أصدقاء الفلسطينيين عامة ومن المثقفين العرب بخاصة.
المستوى الأول يرتبط بالمعركة الثقافية والسياسية من
أجل فلسطين في العواصم الغربية. وهذا يشمل العمل الدائم على الاستفادة من التقدّم
الديبلوماسي وتكريسه والدفاع عنه وتوسيع الدعم للحقوق الفلسطينية في أوساط الرأي
العام وجعل الأخير معنيّاً بها لعدالتها من جهة ولارتباطها بالأمن والاستقرار في
ما يتخطّى رقعتها الجغرافية من جهة ثانية. وهذا يشمل أيضاً العمل الحقوقي لإيجاد
آليات مقاطعة ومحاسبة لإسرائيل تماماً كما كان الحال مع جنوب أفريقيا خلال
الثمانينات ومطلع تسعينات القرن الماضي. وإذا كان الجهد على هذا المستوى قائماً في
بعض الأوساط، إلا أنه لم يتحوّل بعدُ الى عمل منسّق ومستدام يعتمد لغةً ومصطلحات
قانونية موحّدة، تركّز على مسائل الاحتلال والاستيطان وانتهاك حقوق الانسان
ومؤدّياتها.
والمستوى الثاني يتعلّق بإعادة البحث في معنى القضية
الفلسطينية عربياً، وإعادة تعريف "مركزيّتها". وهذا يتطلّب من
الفلسطينيين اعتبار توقهم للتحرّر من الاحتلال الاسرائيلي مرادفاً لتوق الشعوب
العربية للتحرر من أنظمة الاستبداد، جميعها، وعدم اعتبار المسألتين متنافستين أو
متنابذتين أو خاضعتين لترتيب أولويات هرمية. وهو يتطلّب من المواطنين العرب أن
يتذكّروا بدورهم أن معركة تحرّرهم من أنظمتهم ترتبط ارتباطاً عضوياً بمعركة تحرّر
الفلسطينيين من الاحتلال، وأن الردّ على من ابتزّوهم بالقضية الفلسطينية ليبرّروا
قمعهم لا يكون باعتبارها ثانوية أو قليلة التأثير في مصائرهم.
أكثر من ذلك، يفيد تذكير الفلسطينيين والعرب على
السواء أن حصانة منتهكي
القانون الدولي الاسرائيليين سهّلت حصانة منتهكي القانون العرب، وبربرية الأخيرين
في التعامل مع شعوبهم سهّلت على إسرائيل الاستمرار في جرائمها. وإن كان المعنى
القديم لـ"مركزية القضية الفلسطينية" قد استُهلك وحوّلته أنظمة وتيارات سياسية
عربية الى عبء على قضية الديمقراطية في المنطقة، فإن الملحّ اليوم هو إعادة تعريفه
وِفق أفق تحرّري نهضوي يمتدّ من فلسطين الى المنطقة بأسرها.
بهذا
فقط يمكن الانتقال الى حقبة جديدة من الكفاح المتكامل المسارات في لحظة تردٍّ
سياسي وميداني فظيعة. وبالعمل في أوساط الرأي العام الغربي، والتواصل مع مثقفيه وقواه السياسية
والاجتماعية التقدمية، يمكن تعزيز
المساهمة في دعم الفلسطينيين في مواجهة الهجوم الإسرائيلي المتجدّد، المغطّى
أميركياً، والهادف هذه المرّة الى تصفية قضيتهم والانقلاب نهائياً على إنجازاتها
"الخارجية" الديبلوماسية والقانونية.
زياد ماجد
نص منشور في العدد 119، صيف 2019 من مجلة الدراسات الفلسطينية