شكّلت مسابقة كأس العالم النسائية الثامنة لكرة القدم
التي فازت فيها حاملة اللقب الولايات المتّحدة قبل أسبوعين (للمرة الرابعة في
تاريخها) منعطفاً رياضياً وإعلامياً وسياسياً مهماً على أكثر من صعيد.
فعلى الصعيد الفنّي، قدّمت منتخبات المربّع الأخير
(الولايات المتّحدة وهولندا والسويد وإنكلترا) مستوى جيّداً وأداءً مثيراً ظهّر
تطوّر اللعبة في أوروبا، بعد أن كانت ألمانيا ومعها النروج وحدهما تنافسان
الولايات المتحدة الأميركية. في حين لم تُفلح اليابان (حاملة اللقب العام 2011)
والبرازيل في مجاراة فرق الصدارة وخرجت من الدور الثاني.
وعلى صعيد التنظيم والحضور والتغطية، نجحت فرنسا في حشد
الانتباه للمسابقة، فامتلأت مدرّجات الملاعب، وتحسّن النقل التلفزيوني المباشر
ومعه التعليق المحترف على المباريات، رغم بقاء آثار الثقافة الذكورية في بعض
المصطلحات والتشبيهات المستخدمة، التي لم تتأخّر جمعيات نسوية وشخصيات فنية عن
انتقادها والسخرية منها.
ومع أن "الاتحاد الدولي لكرة القدم" لم يتوانَ
عن الموافقة على تنظيم عدة مسابقات في وقت واحد (وهو ما لم يكن ليفعله خلال إقامة
كأس العالم للرجال)، إذ جرت بطولة أوروبا للشباب وكوبا أميركا والكأس الذهبية
للكونكاكاف في نفس التوقيت (وتزامنت المباراتان النهائيتان للكأسين الأخيرين مع نهائي
كأس العالم للنساء)، إلا أن رعاية الشركات الكبرى والاهتمام الإعلامي مكّنا الكأس
النسائية من فرض نفسها كمسابقة دولية أساسية لا شكّ أن السنوات المقبلة ستشهد
تكريساً لحضورها وتطويراً له.
الفريق الأميركي كعلامة فارقة رياضياً وسياسياً
على أن كأس العالم هذه سلّطت الضوء أيضاً على ما لم يكن كثرٌ
يتداولونه من قضايا سياسية واجتماعية تميّز الكرة النسائية، خاصة في أميركا، التي
بدا فريقها العلامة الفارقة فنّياً أولاً ثم سياسياً في البطولة.
فنجمة الفريق وهدّافته وقائدته الثانية ميغان رابينو
أثارت اهتمام المتابعين إذ أعلنت رفضها زيارة البيت الأبيض وملاقاة الرئيس دونالد
ترامب في حال الفوز، والأخير ردّ عليها بتغريدة دعاها "للفوز أولاً"
فردّت مع كل هدف سجّلته بفتح ذراعيها احتفالاً، وتحوّلت حركتها في وسائل التواصل
الاجتماعي الى شعار معادٍ لترامب وسياساته. ولرابينو تاريخ في المواقف السياسية.
فهي تمتنع منذ سنوات عن أداء النشيد الوطني الأميركي أو وضع يدها على قلبها خلال
عزفه، وسبق لها في الأعوام الأخيرة أن انحنت ونكّصت رأسها واضعة ركبتها على الأرض
خلال العزف تضامناً مع اللاعبين السود المندّدين بعنف الشرطة العنصري وبانعدام
العدالة الاجتماعية. كما أنها قادت مع لاعبات أخريات مبادرات لمكافحة التمييز ضد المثليين
والمثليات والمتحوّلات جنسياً، وشاركن العام 2017 في دعم حملة "أنا
أيضاً" (Me Too)
المندّدة بالتحرّش الجنسي، وانضمّت العام 2018 الى حملة دولية انطلقت في مانشستر
في بريطانيا للمطالبة بالمساواة بالأجر بين اللاعبات المحترفات ونظرائهنّ الرجال، ونسّقت
مع زميلتها قائدة المنتخب الأولى أليكساندرا مورغان (مؤلّفة قصص للأطفال
والمراهقات) مفاوضات مع الاتحاد الأميركي لكرة القدم أثمرت تقدّماً في الموضوع في
البلد حيث الفوارق هي أساساً الأدنى عالمياً نظراً لتقدّم اللعبة نسائياً. وأعلنت
بعد الفوز الأخير عن ثقتها بالوصول الى المساواة الكاملة، خاصة أن الإنجازات
الكروية للنساء الأميركيات تفوق إنجازات الرجال وأنهنّ يملأن المدرّجات ويحصلن على
النقل التلفزيوني وعلى الإعلانات والرعاية ولا مبرّر مطلقاً للقبول بأي تمييز
ضدّهنّ.
ويفيد التذكير في هذا الباب أن رياضة كرة القدم في
أميركا المسمّاة "سوكر"، تقبع من حيث الشعبية خلف "الأميركان
فوتبول" وكرة السلة والبايسبول، ولها خصائص إجتماعية وسياسية مختلفة عن سائر
الرياضات. فهي أوّلاً تُعدّ لعبة مستوردة أو عالمية أكثر منها أميركية، وهذا يدفع
المتعصّبين قومياً الى التعاطي معها كلعبة أجنبية أقل شأناً من الرياضات
"الوطنية". وهي ثانياً لعبة تجذب جمهوراً جلّه من الطبقات الميسورة
لأنها انطلقت بشكل خاص كلعبة جامعية، مع استثناء إثني لاتيني، تشكّل في صفوفه
اللعبة الأولى (وهذا سيجعلها ديموغرافياً في توسّع مستقبلاً إذ أن
"اللاتينو" هم المجموعة الأكثر نموّاً في أميركا اليوم). وهي ثالثاً
حاضرة ضمن المسابقات المحترفة في المدن الكبرى على الساحلين الشرقي والغربي، حيث
التصويت سياسياً هو الأعلى للحزب الديمقراطي. وهذه الخصائص وسواها تجعلها في عرف
الأميركيين رياضة "ديمقراطية" أكثر منها "جمهورية".
ولعل قول ميغان رابينو في نيويورك بعد عودتها المظفرة إن
"ترامب لا يمثّل قيمنا" وإن شعاره عن أميركا "العظيمة من
جديد" يعيد البلاد الى "مرحلة تمييز قصوى ضد كثيرين"، ومشاركتها
ولاعبات الفريق في التكريم الكبير الذي أقيم في المدينة الأكثر كوزموبوليتية في
العالم بحضور ورعاية عمدتها بيل دي بلاسيو الذي منحهنّ مفتاح المدينة (ودي بلاسيو
من ألدّ أعداء ترامب)، يمثّلان عمق الهوّة التي تفصل الفريق اليوم عن البيت
الأبيض. وهي هوّة ستزداد عمقاً مع الزيارة التي تنوي رابينو وزميلاتها القيام بها
الى الكونغرس تلبية لدعوة الديمقراطيين شاك شامر ونانسي بيلوسي وألكسندرا أوكازيو
كورتيز (نائبة نيويورك والنجمة الديمقراطية الصاعدة)...
فازت كرة القدم النسائية الأميركية بكأس العالم إذاً،
ودخلت في مواجهة مع ترامب والتمييز العنصري والاقتصادي. وهذا يفسّر لماذا يعدّها
أميركيّون كثرٌ رسالة رياضية وسياسية. رسالة قد لا يتخطّى مداها وأثرها حدود
بلادها، لكنها تؤكّد حكماً كيف يمكن توظيف النجومية الرياضية في أي مكان في معارك
قيمية ومجتمعية.
زياد ماجد
نص منشور في الملحق الأسبوعي للقدس العربي