ارتفعت بُعيد
وفاة الرئيس المصري المُعتقل محمد مرسي، نتيجة ظروف حبسه منذ الانقلاب عليه من قبل
الجنرال عبد الفتاح السيسي، أصواتٌ يسارية وليبرالية عربية تقارب الأمر بحياد.
حجّة الأصوات المذكورة أن لا فارق بين الإسلاميين والعسكر، وأن الطرفين
"وجهان لعُملة واحدة"، وأنهما يتساويان عداءً للديمقراطية، ولا حاجة
بالتالي لموقف قد يبدو تأييداً لواحدهما.
على أن
الحجّة هذه،
خاصة إذ تُعلَن لحظة وفاة رئيسٍ مُنتخب في أول انتخابات حرّة في تاريخ مصر،
ومُعتقل منذ ست سنوات في سجون العسكر المنقلِب عليه، تثير الكثير من الأسئلة عن
ثقافة الديمقراطية ذاتها وعن فلسفة حقوق الانسان ومفهوم العدالة لدى مُعتنقيها.
في
تهافت الحياد التبسيطي
من هذه
الأسئلة مثلاً ما يرتبط بالموقف من الاعتقال السياسي والتنكيل بالمُعتقل والتسبّب
بموته، بمعزل عن أي عامل عقائدي أو هويّة سياسية، وهو ما أدّى حتى الآن الى "مقتل"
العشرات (وإعدام العشرات غيرهم) في السجون والمحاكم المصرية المكتظّة بما يزيد عن
الخمسين ألف معتقل.
من
الأسئلة أيضاً ما يتعلّق بالتبسيط الذي يجمع الإسلاميين جميعهم، بتياراتهم
المختلفة والمتنابذة الخيارات، في سلة واحدة، فيصبح السلفي الدعوي والإخواني
والجهادي متماثلين، حتى لو كان بعضهم متحالفاً مع خصوم البعض الآخر، والتكفير قائماً
بين عدد من أطرافهم، والموقف من الاقتراع والمشاركة السياسية فارزاً لهم بين رافض
ومشجّع. ويُفضي الجمع التبسيطي هذا غالباً الى تبرير إجرام أنظمة العسكر عند
استهدافه فئات موسومة بالإسلاموية، واعتباره شكلاً من أشكال الصراع على السلطة لا
حاجة لرأي سياسي أو حقوقي فيه ولا حتى لتدقيق في خصائصه وديناميّاته وتبعاته.
ومن
الأسئلة كذلك، أن الإسلاميين المشاركين في الانتخابات والفائزين بها، أصحاب
مشروعية شعبية وأحقية تمثيل لا يغيّر فيها الاختلاف (العميق) معهم حول مرجعيّاتهم
الفكرية وبرامجهم السياسية وأدواتها. وهم بهذا المعنى، وعلى خلاف العسكر
الانقلابيين المستندة مشروعيتهم الى الدبابات والسجون وأجهزة المخابرات، يملكون
مسوّغات المشاركة السياسية كاملة. والزعم الصحيح بانتهازيّتهم لا يجعل منهم مختلفين
عن معظم التيارات غير الدينية، الانتهازية بدورها وفق ما تقتضيه مصالحها وتحالفاتها
الانتخابية. أما تكرار القول بسعيهم لتأبيد السلطة بين أيديهم فنظرّية قد تكون صائبة،
لكن التجربة لم تُثبتها بعد، إذ أنهم لم يحكموا مرة نتيجة انتخابٍ حر دون أن تقتلعهم
انقلابات عسكرية أو عقوبات دولية (من جزائر التسعينات الى مصر اليوم، وبينهما غزة
العقد الماضي)، في وقت لم يترك لهم تعاقب الانتخابات في تونس بعد العام 2011
والقبول المرحلي بحكمهم القدرة على البقاء في السلطة أو تأبيد امتلاكها. والتأبيد
المذكور عملياً، وبعيداً عن النظريات والتنبّؤات، لم يكن حتى الآن في جمهوريات
العالم العربي سوى سمة أنظمة العسكر المستظلّة بالقومية أو اليسار أو المدّعية
علمنةً، من بعثَي سوريا والعراق الى قوميّات مصر واليمن وليبيا والجزائر وسواها.
الأهمّ
ربما، أن دُعاة الحياد والقول بوجهي العُملة الواحدة يتناسون أمرَين لطالما أفضيا
الى كوارث ما زلنا نعيش آثارها. الأول، أن قمع "الإسلاميين" في جميع
الحالات المعروفة ترافق، أو تسبّب لاحقاً، بقمع سائر القوى السياسية والتيارات
المعارضة، يسارية كانت أم ليبرالية. حصل هذا في مصر نفسها وفي العراق وسوريا
وليبيا، وهو يتكرّر راهناً. والأمر الثاني، أن تدمير الحقل السياسي على ما يفعل
العسكر في كلّ مرّة يسطون فيها على حُكمٍ، هو المبعث الأول على تغذية التطرّف
(والعدمية)، وجعل الإسلاميين الأكثر تشدّداً ورفضاً للتسويات والمساومات
والبراغماتية السياسية يتقدّمون على حساب منافسيهم، مع ما يؤدّي إليه الأمر من
احتمالات عنف وصدام وظلامية وسيادة لمقولات الابتزاز المألوفة إياها.
في
خطورة الحياد بين العنف وصندوق الاقتراع
بهذا
المعنى، لا يمكن لراغبين في تحوّل ديمقراطي عربياً، أو في اعتماد المشاركة
السياسية والتنافس المفتوح وصندوق الاقتراع الدوري والدساتير والتشريعات الوضعية
أدوات تحكيم بين الاتجاهات ومنطلقات لتشكيل السلطات، أن يختاروا الحياد بين جلّاد
وضحية، وأن يبرّروا الأمر على أساس أن الضحية البارحة واليوم قد تكون جلّاداً
غداً، أو أنها لا تختلف عن الجلّاد في شيء. فالاختيار هذا يعني القبول بالعنف
بديلاً عن السياسة، والوقوع في فخّ التواطؤ مع نظريّات التخيير بين أصناف العنف
ومراجعه أو البحث عن وضع هرميّات له ولمُعتمِديه.
أكثر من
ذلك، يُعيد الحياد تكريس منطق سلطوي عربي ساد طيلة الثمانينات والتسعينات وبدايات
الألفين، تمرّدت عليه ثورات العام 2011 وانتفاضاتها قبل أن تُعيده الثورات المضادة
والصراعات الطاحنة، مفاده استحالة الديمقراطية وحصر الخيارات بين ثنائيات، وبين
سيناريوهات أحلاها مرّ.
هل يعني
هذا أن لا تواطؤ في أحيان كثيرة بين أضداد يحتاج واحدها للآخر ليبرّر تسلّطه أو
مظلوميّته؟ بالطبع لا. وهل يعني أن لا نقد ضرورياً ومشروعاً لتجربةٍ مثل تجربة
الرئيس الراحل محمد مرسي خلال سنة حكمه التي فشل فيها في إدارة الاقتصاد المتهاوي
وسعى الى فرض دستور جديد لم توافق عليه قوى وشرائح مصرية عديدة وحابى "الدولة
العميقة" معيّناً أحد رموزها – عبد الفتاح السيسي ذاته – وزير دفاع، بما قلّص
من قدراته التحالفية شعبياً وسهّل عملية الانقضاض عليه؟ بالطبع لا، أيضاً وأيضاً.
على أننا
نبقى، بعد التساؤل والنقد، أمام معادلة لا ينفع ترداد القول بتماثل طرفيها للهروب
من تحديد الموقف المبدئي والآني تجاهها. فالسعي الى كسرها أو الى الفرز الديمقراطي
الفعلي لتعديل مفاعيلها والانتهاء من ابتزازها يمرّ عبر التموضع غير المشروط ضد
الجلّاد فيها، والبقاء في نفس الوقت على مسافة سياسية وفكرية واضحة من ضحيّتها...
زياد ماجد
مقال منشور في الملحق الأسبوعي للقدس العربي