تبعث الثورة السورية أملاً جميلاً وتفاؤلاً مبرّراً بانتصار قريب لشموخ الحرية. وهذا في ذاته، يثير كل يوم شعوراً بالاعتزاز والثقة يبدّد قلق مساء الخميس على حجم التحرّكات في اليوم التالي، ولو أنه لا يمنع الحزن والأسى عند وصول أخبار الاعتقالات ورؤية الدماء تسيل غزيرة في الساحات.
في النص التالي، ثلاث ملاحظات سريعة من وحي الثورة.
- إكتشاف الناس لبعضهم ولديارهم وحبّهم لمن ولما يكتشفون: لعلّ أهمّ ما يوهن الدكتاتورية، هو وصل ما انقطع بين الناس ونسج علاقات تستبدل الريبة والخوف بالثقة وإرادة التحدّي. ففي ذلك فعل إزالة للقمع الذاتي واستعادة للمبادرة وتقويض لدعائم فلسفة القمع القائمة على العنف وعلى الرهبة وعلى تفكيك المجتمع وجعله وحدات لا قدرة لها على التواصل فيما بينها. وما يجري في سوريا منذ أشهر، هو إعادة بناء لمجتمع ولسياسة ولعلاقة بالشأن العام، تتمحور حول الحرية والكرامة والمواطنة، وتقوم على تكثيف مشاعر التضامن بين الناس في التضحية وفي المواجهة وفي الشجاعة وفي معرفة أن المصير واحد وأن المعاناة مشتركة وأن الدماء إذ تسيل في حماة، تسيل أيضاً في درعا وفي دوما وحمص وبانياس وجسر الشغور ودير الزور والقامشلي وغيرها من أسماء المدن التي صارت تشبه أسماء علم جماعية يتّحد ألوف في اتخاذها عنواناً لهم، ويهبّ ألوف آخرون هاتفين لها في مكان آخر. هم البشر والأمكنة يعيدون تعريف سوريا وجمع أوصالها وحَبك قصة ولادتها الجديدة، المدهشة أيّما إدهاش.
- الإبداع والفن وروح النكتة: تعيد الثورة السورية الى الفن والثقافة نُبلاً وإبداعاً لا يتذكّر من هم دون الخمسين من العمر في منطقتنا العربية أنهم عرفوا ما يشبههما في مفاصل تاريخية أو في انتفاضات أو تحرّكات شعبية. وربما يساعد اليوتيوب والفايسبوك وغيرها من وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي في تشجيع الأمر وفي تعميمه والتعريف به. لكن كمّ الشعارات الذكية والطريفة واللوحات الفنية البديعة والأغاني والرسوم الكاريكاتورية والتعليقات الرشيقة والأنيقة وبيانات السينمائيين والحقوقيين والمقالات وأفلام الواقع القصيرة وصفحات الفايسبوك التضامنية أو الساخرة (بمعنى سخريتها من الدكتاتور ونظامه وإعلامه)، هذا الكمّ، ينتشر بسرعة فائقة ويفيض حيوية وبهجة. كأن هناك من يحاول تعويض الوقت المسروق من عمره ليقول بيومين ما دار في باله طيلة عقود، أو كأن هناك من أطلقت الثورة مخيّلته وعلّمته كيف يرافق إيقاع المتظاهرين وهتافهم وتوقهم للحياة ولو نزفوا، فيشارك بدوره في لعن الظلام بلغة حيّة مجدّدة. وثمة تتويج لكل ذلك بروح نكتة وضحك رغم المآسي والآلام هو بذاته إشهار انتصار التمسّك بالعيش الكريم على رصاص القتلة، وهو تهديم للخوف يجعل الطاغية وصوره وكلامه وتماثيله مسخرة وموضوع تندّر لا يبقي من "هيبته" التي لا قوام دكتاتورياً من دونها إلا أثراً بعد عين.
- إلتصاق الطغاة بنفس صورهم المتوارثة: مقابل كل هذا الإبداع والعطاء الثقافي والإنساني ومقابل الشجاعة والكرم وأشكال التضامن الجديدة المبهرة، يطلّ الإجرام بنفس صوره القديمة البائسة، المُتناقَلة فاشية إثر فاشية، وجيلاً بعد جيل. هكذا، يُردّ على طلب الحرية بالقتل والتعذيب، ويُتّهم المتظاهرون بالعمالة وبنقل الأمراض الى جسد "الأمة"، وتفيض السجون فتُفتح ملاعب الرياضة (كما في سنتياغو عقب انقلاب بينوشيه)، وتُقتلع حنجرة مُنشد لأنه جعل الدكتاتور مهزلة تتناقلها الألسن والابتسامات (وتراث القتل البربري للمغنّين وللكتّاب الساخرين من السلطان نعرف أخباره من عبد الله بن المقفع الى فيكتور جارا). وهكذا أيضاً، يستسلم الطغاة الى جفاف مخيّلتهم ويؤكّدون أن غريزة القتل عندهم أعلى شأناً من كل محاولة الارتباط بالأنسنة وما تضبطه من غرائز وتديره من مسالك.
المستبدّون، إذن، عراة إلا من عنفهم الهمجي، والثورة السورية مستمرة بأوجهها البديعة وبأبعادها الإنسانية والقيميّة التي لا يمكن أن تنهزم هذه المرة. ليس لأن القتل لا يستطيع التهام الناس جميعهم فقط، بل كذلك وقبل ذلك، لأن الحياة مطحنةٌ لكل من يظن أن بإمكانه وقف استمرارها أو تثبيت زمانها عند لحظة طوَتها إرادات الثائرين والثائرات، ولن يكون لها لا بعث ولا قيامة...
زياد ماجد