يزداد ارتباك بعض اللبنانيين تجاه الوضع في سوريا بعد تصاعد الثورة وتمنّعها على القهر رغم بربرية النظام في التعامل معها ورغم الصمت العربي والدولي المشين تجاهها.
واللبنانيون هؤلاء، درجوا على ادّعاء نزاهة واستقامة في المواقف لا هوادة فيها. فإذا بهم مع انطلاق الانتفاضات في درعا ثم بانياس ودوما يختبئون في صمتهم تجاه ما يجري خلف إسلامية مزعومة للتحرّك تارة وخلف صمت لبنانيين آخرين تجاه ما جرى في البحرين من قمع شنيع تارة أخرى، وخلف مشاريع إمبريالية تدير الدفّة أو أدوار منسوبة لشخصيات سورية من ماض بائد تارات وتارات. وقد كان رهانهم، كما ذكر أحدهم في آذار الماضي، أن تُخمَد الثورة بسرعة. ظنّوا أن حرجهم لن يدوم أكثر من أيام أو أسابيع تَخنق فيها أجهزة السلطة السورية الحراك الشعبي، فيطوون صفحة الحرج ويعودون الى ممارسة تبجّحهم بالثورة المصرية وبالربيع العربي و"أزهاره" (رغم أن لا شبه بين ما يُرفع في هذا الربيع من شعارات تكاد تكون محصورة بالحرية والكرامة والمواطنة وبين شعاراتهم ومناطحاتهم الورقية للإمبريالية).
ولعل الأيام الأخيرة حملت علامات فاقعة على ارتباك هؤلاء، خاصة بعد أن صارت شوارع أكثر من مئتي مدينة في سوريا تضيق كل جمعة بمئات ألوف المتظاهرين، وبعد أن صارت السخافات التي ردّدوها ومضغوها عن المؤامرات والسلفيين والجوامع مملّة حتى لهم وللصفحات حيث يكتبون.
من هذه العلامات مثلاً، قولهم بالتماهي بين مثقفي الثورة السورية – وجلّهم متخفّ أو عرضة للتوقيف أو القتل مثل ألوف السوريين – والنظام نفسه، المسؤول منذ نشأته وحتى الساعة عن قتل عشرات ألوف السوريين (والفلسطينيين واللبنانيين) وسجن ونفي مئات الألوف منهم (بينهم عدد من المثقفين المستهدَفين اليوم إياهم). ومنها كذلك اشتراطهم أن يَشتم المعارضون السوريون أميركا وإسرائيل والسعودية و14 آذار (هل ما زالت موجودة؟) كل يوم في مقالاتهم ومظاهراتهم كي يأخذوا موقفاً إيجابياً منهم. وإلا فموت العشرات أسبوعياً برصاص ابتيع "لتثبيت الممانعة ودعم المقاومة" ليس سوى أمر مؤسف أو ضرر جانبي في مسيرة مواجهة المكائد الكونية والماورائية لدولة "الصمود والتصدي". ومن العلامات أيضاً عمليات تنقيب يقيمونها في ما جرى بين عامي 1963 و1970 في سوريا (أي قبل اغتصاب الأسد الأب للسلطة) لمعرفة ما إذا كان من حقّ من اعتُقل آباؤهم بعد ذلك، ولأكثر من عقدين، أن يكتبوا حول معاناتهم وأن ينادوا بالتحوّل الديمقراطي وبسقوط الاستبداد في بلادهم.
هي الرقاعة إذن سمة لهؤلاء ولمواقفهم، وهي في أي حال ليست مفاجِئة، ولا هي اليوم حكرٌ عليهم. فالصامتون اللبنانيون لأسباب خارجية أو "أقلّوية" أو لحسابات محلية ضيّقة يشاركونهم إياها... لكنها في أي حال، لا تعدو كونها وباءً عاجزاً عن التسلّل الى سوريا نفسها. فهناك، تستمرّ الملحمة ويستمرّ السوريون والسوريات بإصرارهم وضحكاتهم ودمائهم وآلامهم وآمالهم في رسم صفحات جديدة من حكايتهم، حكاية الحرّية التي لا طعم لشيء قبل تنفّس هوائها والغناء في فيئها.
زياد ماجد