لا شيء يدفع للكتابة هذه الأيام أكثر من أخبار الثورة السورية. ففيها تتدافع المواضيع وتتكثّف المشاعر، وفيها أيضاً تتجدّد السياسة ويُعاد تعريف الأولويات وتظهير معاني الحرية. الحرية التي يستعدّ السوريون والسوريات لبذل حياتهم في سبيل انتزاعها وفي سبيل تنفّسها وطرد الكابوس الذي أطبق عليهم وعليها.
في ما يلي، خطرات ثلاث من وحي الثورة.
مسيرة المثقّفين
فنّانون وكتّاب قرّروا الدفاع عن أهلهم وجيرانهم وأبناء وبنات بلدهم. قرّروا مواجهة ما يتعرّض له ناسهم بصدورهم ووجوههم وأصواتهم. قرّروا أن يتماهوا والمتظاهرين فيضعوا "شُهرتهم" في تصرّف هؤلاء كي لا يبقى الاستهداف ضارباً إياهم بوصفهم "مجهولين" مُجرَّمين... تظاهروا، أُوقِفوا، ثم تحرّروا، وكتبوا عن الساعات التي عاشوها مع معتقلين آخرين في ذلك العالم السفلي حيث يُقيم السيّافون والحشرات. صنعوا بمسيرتهم وسجنهم وكتابتهم تاريخ ميلاد جديد لهم، وافتتحوا به صفحة من صفحات حكاية الحرية في سوريا.
أدب الحاضر والستقبل
ثمة أدب تلدُه مذكرات المعتقلين والمعتقلات هذه الأيام. ليس أدب سجون. ففي الأخير غالباً ما يسيطر الماضي وينبعث يوميات وصوراً وروائح وذكريات آلام وأحلام بعيدة المنال... هذا الأدب فيه حاضر ومستقبل. عتمة الزنزانة لا تبدو غير جحيم مؤقّت. الأجساد المتكوّرة على أوجاعها تبدو على وشك النهوض. التوق للخروج لا يظهر بوصفه حنيناً أو شوقاً، بل ولادة جديدة تنتظر التفتّح في مدينة جديدة أيضاً. الابتسامات موجودة فيه وموزّعة على زوايا الغرف تقهر بتفاؤلها العتمة والجروح.
كأن المعتقلين يعلمون أن خروجهم لا يعني عودة الى ما كانت حياتهم عليه. كأن اليقين بالخروج هو يقين بالانتصار. بحريات فردية ستعانق حرية جماعية مشتركة انتزعوا نُتفها والمنتظرون في الساحات.
يشبه هذا الأدب سوريا الجديدة، أو هي تشبهه، لا فرق. ففي الحالين نحن أمام اكتشاف. أمام دهشة وأمام قيامة. أمام حياة تنبعث من ثنايا الحب والدموع والندوب لتملأ البيوت والطرقات حكايا عن ناس حوّلوا الخوف الى ضحكات، والصمت الى أغاني ستسقط الطغاة...
ابراهيم القاشوش
صار ابراهيم القاشوش، صوت الثورة الذي حطّمت أهازيجه هيبة الدكتاتور والذي ظن القتلة أن انتزاع حنجرته سيطفئ الكلمات والموسيقى التي انبعثت منها، صار مُلهماً للمُنشدين يتبارون في تحدّي الموت من خلال نثر أغانيه فوق كل تجمّع ينبض حياةً في سوريا. صار صوتاً لجميع الناس، صوتاً لا صوت يعلو فوقه. يستعيره كل باحث عن هدم جدران الخوف والصمت إن حاولت خنقه.
صار القاشوش نفسه نشيداً. وصرنا وكأننا قاشوشيّون. نسمعه يومياً مرة أو مرتين ونردّد وحدنا كلماته البسيطة التي حفظناها منذ أول جمعة أحيى انتفاضتها. نتخيّله في أعلى برج الساعة في ساحة العاصي يطلق العنان لأوتاره الصوتية، فتفيض على حماة ثم على كل سوريا سخريةً من المستبدّين...
زياد ماجد