في ظل التعتيم الإعلامي الذي تمارسه بعض الفضائيات العربية من جهة، وفي ظل منع النظام وأجهزته الرقابية التغطية المستقلة لكل ما يتعلّق بانتفاضة المدن والبلدات السورية من أجل الحرية من جهة ثانية، يبقى "اليوتيوب" وما يُحمّل عليه من أفلام تلتقطها هواتف المتظاهرين المحمولة وسيلتنا الوحيدة للنظر الى الداخل السوري، وللإنبهار أمام شاشة الكمبيوتر بالشجاعة الأسطورية التي يسطّرّها أبناء درعا واللاذقية ودوما وحمص وحماه ودمشق وسائر المناطق التي نفض أهلها غبار الرعب والصمت عنها. ويبقى "اليوتيوب" كذلك وسيلتنا الوحيدة لنكون شهوداً على الدم المُراق والأحلام المخنوقة، والإرادات الرافضة لإسدال المشهد على موت ودفن، المحوّلة كل وداع وجنازة الى قيامة جديدة وحشد جديد وأمل أكبر من ذلك الذي أصابته الطلقات وهي تصرع طلائع حمَلَته.
وها نحن منذ 15 آذار في حالة تسمّر أمام الشاشة الصغيرة الأكثر صدقاً من سائر الشاشات، والأشد التصاقاً بالحدث وصانعه في اهتزاز صورها وارتجاج الكادر الحاوي ألوانها وأصواتها مع كل حركة تقدّم أو تراجع للمتظاهر المصوّر. فحاملها يؤكّد لنفسه أوّلاً أن ما يفعله واقع وليس حلماً، وينقل للعالم ثانياً شهادته على إزاحة هياكل الخوف التي جثمت على صدره وصدور أهله وأبنائه وصحبه وجيرانه.
وهنا نحن منذ 15 آذار لا نعبأ بالصحف الصفراء الداعمة للاستبداد ولا نعبأ بتلك الصامتة عنه. فالأفلام التي يرسلها المنتفضون لا تحتاج لمقالات وتعليقات ولا لضيوف وصفحات مراسلين أو مغفّلين. تتحدّث بنفسها. تصوّر الشوارع الصادحة بنداء الحرية، وتحوّل كل هتاف الى أغنية كالتي أهداها سميح شقير الى درعا. الى قصيدة تبوح بأن هؤلاء الخارجين الى الساحات، لن يطوي الخوف هاماتهم بعد اليوم، ولن يسجن النسيان قصص نهوضهم وموتهم وحياتهم. هم هناك، في مدن سوريا وقراها، وهم هنا في فضاء الانترنت الذي لم يعد افتراضياً، بل صار حقيقة اتصالنا بحركتهم وسكونهم وأملهم وكلماتهم الأولى أو الأخيرة. صاروا بيننا، في بيوتنا، على موائدنا، وكأننا في حضرتهم يروون لنا ما فعلوا ويُعدّدون ما حطّموا من قلاع وقيود...
لا يحتاج ما يجري اليوم في سوريا منا الى أكثر من موقف ومن مواكبة ومن كلمة ترفض الضبابية بحجة التحليل، والبرودة بذريعة المآلات. فهذه وتلك شؤون وجُب الخوض فيها والبحث في ثناياها فقط بعد إعلان الانحياز غير المشروط الى الحرية... الحرية التي لا قيمة لكلام مبتور عن هواها، ولا حياة لأفكار ولوعود لا تتنفّس نسائمها، تلك التي هلّت من "بشاير حوران" لتملأ فضاءنا.
زياد ماجد