يردّد بعض المثقفين والناشطين اللبنانيين من رافضي التضامن مع الشعب السوري في مواجهة القمع الإجرامي الذي يتعرّض له على أيدي النظام القابض على سوريا منذ العام 1970، أربع حجج مختلفة لتبرير رفضهم.
- الأولى، وتُستخدم للتشاطر، تقوم على اشتراط الاستنكار هنا باستنكار آخر للقمع في البحرين والسعودية. بهذا، يستند التهرّب من التعليق على مجازر الحكم السوري الى افتراض أن بعض معارضيه يتهرّبون من جهتهم من انتقاد ممارسات العسف في الخليج العربي. وإذا كان في الأمر صحة لجهة تجنّب كثر من منتقدي القتل في حمص انتقاد القتل في دوّار اللؤلؤة مثلاً، إلا أن الاستناد الى ذلك يبقى متهافتاً وبليداً. ذلك أن ازدواجية المعايير إن وُجدت (وهي حكماً مُستنكرة) ينبغي ألا تكون ذريعة لممارستها مقلوبة، وأن الموقف مما يجري في مكان بعينه لا يتطلّب كل مرة إعلان مواقف مما يجري في كل الأمكنة. وإلا لوجب عند استنكار أي قمع، إعداد لائحة تبدأ بالشيشان والتيبيت وفلسطين والعراق وأفغانستان وكوريا الشمالية، ولا تنتهي من دون التطرّق الى شؤون الكونغو وليبيا وايران وساحل العاج والموزامبيق. وهي لائحة بلا شك أخلاقية، لكنها ليست فرضاً موجِباً لإدانة القمع في درعا أو في المنامة أو في طهران أو في مصراتة. هذا علماً أننا إن عدنا لنكتفي بالخريطة العربية، فلا قمع يلامس القمع في سوريا ضراوةَ وعنفاً إلا قمع نظام البعث التوأم في العراق سابقاً، ونظام الشقيق العقيد في ليبيا راهناً...
- الثانية، ويقف وراءها أنصار ما يُسمّى بالممانعة والمقاومة، ترى أنه لا يمكن التضامن مع المتظاهرين السوريين كما جرى في السابق التضامن مع المصريين والتونسيين والبحرينيين، لأن نظام الأسد – وعلى العكس من باقي الأنظمة – نظام مقاوم لإسرائيل وممانع لأميركا. وحجّتهم طبعاً دعمه لحماس وحزب الله... أما جبهة الجولان المحتل الأكثر هدوءاً منذ العام 1974 بين جميع الجبهات العربية، وأما الإشادات الغربية بحسن التعاون السوري في مجال "مكافحة الإرهاب"، وأما مشاركة الجيش السوري الى جانب الأميركيين في حرب "عاصفة الصحراء" ضد العراق، وأما قتال الوحدات السورية الفلسطينيين في لبنان مباشرة في البداوي والبارد وطرابلس في الشمال وبالواسطة في سائر المخيمات ولسنوات عدّة (على نحو أسقط ضحايا يفوقون عدد ضحايا مجازر صبرا وشاتيلا)، فأمور لا تستوجب النظر... وحتى لو تناسينا كل ذلك، ووافقنا على التوصيف "المقاوم" و"الممانع"، لبقي أن نقول إنه لا يبرّر ضرب متظاهر واحد في دوما أو بانياس. فكيف بقتل عشرات ألوف السوريين منذ العام 1970 ولغاية اليوم؟َ!
- الثالثة، ويتولّى الحكي فيها بعض العلمانيين المُؤثرين نظاماً استبدادياً غير ديني على ما يعتبرونه احتمال سيطرة السلفيين على الحكم في سوريا إن تهاوى بعثها. ورغم أن كثراً من هؤلاء لا يرون في حزب الله وحماس اللذين يناصرونهما شبهة دينية أو إسلامية أصولية (!)، ورغم أنهم لا يرون في ممارسات النظام السوري تشجيعاً للانقسامات الأهلية والطائفية من أجل السيطرة والتحكّم، إلا أنه لا بأس بمناقشة مخاوفهم في ذاتها، أي بمعزل عمّا ذكرنا... فأين يرى هؤلاء سلفيين يرفعون شعارات الحكم الإسلامي في ما نشهد اليوم من تظاهرات شعاراتها "الشعب السوري واحد" أو "حرية" أو "كرامة"؟ وهل عبارات اجتماعية في ثقافة بلادنا مثل "الله أكبر" تُستخدم عند الطرب وعند تسجيل هدف وعند تشييع فقيد وعند أي انفعال، تماماً كما تُستخدم في لحظات الغضب والتظاهر هي دليل على سيطرة السلفيين؟ وهل في بلاد حطّم الاستبداد العلاقات السياسية بين أبنائها ومنع اللقاءات والتجمّعات، تبقى غير المساجد ودور العبادة للاجتماع؟ إن الخشية من الاستبداد الديني مشروعة، لكننا لا نرى حتى الآن ما يوجب القلق منها – لا في مصر وتونس – ولا في سوريا. وإن تبيّن لاحقاً أن بعض الإسلاميين المدّعين اليوم التزاماً بالديمقراطية يريدون الانقلاب على ذلك، فسيتصّدى لهم حينها جزء كبير من الناس المتصدّين اليوم لمن يعلن جهاراً رفض الديمقراطية وتداول السلطة وحقوق الإنسان لأسباب غير دينية.
- أما رابعة الحجج، فمفادها وجوب تفادي الفوضى وسيناريو العراق في سوريا. وهي إذ تبدو محقّة للوهلة الأولى، إلا أن التدقيق فيها يظهر تهالكها. ذلك أن التجارب علّمتنا أنه كلما طال أمد الاستبداد والعنف، كلّما صار الخروج منهما أكثر كلفة. أي أن الفوضى الدموية ستكون أكثر فجوراً إن طال عمر النظام الديكتاتوري. هذا ما تعلّمناه في العراق، وهذا ما نتعلّمه في ليبيا، وهذا ما يمكن أن نتعلّمه في كل الأمكنة حيث يرفض الحاكم المستبدّ الرحيل وحيث تدعمه أجهزة القمع التي أنشأها حتى النهاية (على عكس ما جرى في تونس ومصر). لذلك، وجب على أتباع هذه الحجّة أن يكونوا الأكثر حرصاً على تسريع عملية انتقال الأوضاع في سوريا من طور الى طور، كي لا تدخل البلاد فعلاً ما يريد النظام لها أن تدخل فيه إن هو رأى أن شروط دفاعه عن نفسه وعن بنيته الأمنية تستوجب تعميم الأهوال على طريقة "عليّ وعلى أعدائي"...
تبدو الحجج المذكورة إذن بائسة في تبرير الصمت أو التواطؤ أو التهرّب من الموقف الأخلاقي المنحاز الى الحرية في سوريا (كما في كل مكان)، والذي فقط بعد إشهاره، يمكن للنقاش السياسي أن يستقيم وأن يتناول آفاق الوضع وسبل تجنّب السيناريوهات السوداوية وغيرها من أمور هي فعلاً تستحقّ النقاش. لا بل تستحقّ النقاش المستفيض...
زياد ماجد