Monday, October 6, 2025

عن حزب الله وسلاحه أيضاً وأيضاً

تعرّض حزب الله خلال الأشهر الأخيرة لما أسماه "حرب الإسناد" العام 2024 لمجزرةٍ إسرائيلية أطاحت بقيادتيه السياسية والعسكرية ودمّرت معظم تحصيناته الحدودية ومواقعه المتقدّمة. حصل ذلك نتيجة عوامل قيل فيها الكثير: بدءاً من سوء حساباته وحسابات إيران التي لم تقدّر عواقب التهديدات الإسرائيلية - الأميركية بالتصعيد و"الحلّ العسكري"، وهو ما حال دون سماح طهران باستخدام الأسلحة الثقيلة ظنّاً بإمكانية إبقائها لجولات لاحقة، مروراً بالذكاء الاصطناعي وتوظيفاته العسكرية التي لا معرفة كافية للبنانيين والإيرانيين بتبعاتها، وصولاً الى الاختراقات الأمنية بواسطة عملاء في جسمه وبيئته المباشرة، لأسباب عديدة، منها انكشافه الأمني في سوريا خلال مشاركته في الدفاع عن نظام الأسد البائد على مدى سنوات، ومنها الانهيار الاقتصادي اللبناني المسهّل رشوة عملاء، ومنها الاختراق الاستخباري الإسرائيلي والأميركي في إيران ذاتها، وفي مواقع سهّلت توفير قاعدة معلومات خطيرة حول البنى الحسّاسة للنظام الإيراني ولحليفه اللبناني. كما أن استعاضة تل أبيب عن العمليات البرية الواسعة، لعلمها بقدرة حزب الله على إلحاق الأذية بجنودها، بالقصف الجوي وباستخدام طاقة نيرانية استثنائية التدمير حقّق لها نفس النتائج وأظهر انعدام معادلة الردع التي ادّعى الحزب وجودَها.

ولم يعُد صحيحاً بالتالي القول بإمكانية استخدام ما بقي من سلاح ثقيل في مواجهات مقبلة، إذ أن الطائرات المسيّرة والأقمار الاصطناعية والترتيبات الأمنية الجديدة في الجنوب والاحتلال الإسرائيلي لعدة مناطق بعد وقف إطلاق النار (الذي قبِل به الحزب وحكومة نجيب ميقاتي الموالية له والرئيس نبيه برّي المفاوض باسمه) وتفكيك البنية التحتية العسكرية لحزب الله جنوب الليطاني لا تُتيح هوامش تحرّك عسكري.

خيارات الحزب بعد الكارثة التي حلّت به وبلبنان هي إذاً ثلاثة، لا رابع لها، بمعزل عن كل السجالات والمزايدات، قبل موقعة صخرة الروشة وبعدها.

أول هذه الخيارات المضيّ بالمكابرة ورفض نزع السلاح، وسعي الحزب لإعادة بناء قدراته العسكرية. ويمكن القول هنا إن الأمر مستحيل لجهة الصواريخ وإعادة حفر الأنفاق والخنادق والتواجد على تماس مع مدن ومستوطنات الشمال الإسرائيلي. لكنه ممكن جزئياً لجهة تنظيم شبكته البشرية المقاتلة وإعادة بناء منظومة طائرات "درون" إنتحارية، مع نسبة اختراق محدودة لنظم الدفاع الأميركية الإسرائيلية (لا تتخطّى 16 في المئة)، وكلفتها بالتالي عالية مقارنة بفاعليّتها. كما أن مواقع الحزب التي ستُستخدم لأغراض تنظيمية وعسكرية ستبقى عرضة للرصد ولغارات دورية لا شيء يردعها دولياً وإقليمياً، ولا أنظمة مضادة للطيران توقفها محلّياً. يُضاف الى كل ذلك صعوبة نقل الأموال والمعدّات من الخارج الى الداخل اللبناني (بعد إقفال الحدود السورية) ممّا سيبطّئ "مسار الحزب العسكري". والأهم من كل ما ورد، أن هكذا خيار سيؤدّي الى مواجهات سياسية داخل لبنان والى توتّرات إجتماعية وطائفية دورية، لن تزيدها احتمالات الضربات الإسرائيلية بغطاء أميركي سوى تفاقماً، وستنعدم معها سبل الإعمار واستعادة الحدّ الأدنى من الحياة الاقتصادية جنوباً، مع ما يعنيه الأمر من استفحالٍ للمعاناة في بيئة الحزب المباشرة وفي البيئات الاجتماعية الجنوبية واللبنانية المختلفة.

الخيار الثاني، هو خيار القبول بتسليم السلاح، ثم المماطلة في ذلك لكسب الوقت في انتظار متغيّرات داخلية وإقليمية ودولية، لا شيء يُبرز احتمال حصولها أو احتمال تأثير بعضها إن حصل "إيجاباً" على الحزب وسلاحه. والمماطلة لن تقي المعنيين في أي حال من استمرار الغارات، ولن تقي لبنان من العدوانية الإسرائيلية الأميركية المنفلتة، وسط انعدام أي قدرة على الردّ على الاعتداءات، ووسط تراجع الديبلوماسية وأدوارها "الحمائية" في ظل إدارة دونالد ترامب وفي ظلّ ترنّح القانون الدولي ومبادئه منذ بدء حرب الإبادة في غزة. وكلّ هذا سيزيد من عزلة حزب الله لبنانياً، في لحظة عزلة إيران دولياً، خاصة أن جميع حلفاء الحزب ذوي الثقل الشعبي، ولو المحدود، قد انفضّوا عنه، وسيؤجّل من إعادة إعمار المناطق المنكوبة وعودة أهلها إليها.

الخيار الثالث، غير المرجّح تبلوره قريباً، هو قبول الحزب الجدّي بالتخلي عن جناحه العسكري والتحوّل حزباً سياسياً، سيكون بلا شكّ الأقوى بين الأحزاب والأوسع شعبية نظراً لحجم الديموغرافيا الشيعية في البلد. لكن هذا يفترض حسماً للأمر داخل قيادته والاقتناع بأن التهويل والابتزاز والتهديد بفائض القوة المسلّح لم يعد ممكناً، ومثله الاختباء خلف "عقيدة الردع مع العدوّ" التي انهارت تماماً. وهو يفترض كذلك تراجعاً نهائياً في طهران عن المساعي الأمبراطورية الإقليمية التي لم يبق من جبهاتها فعلياً اليوم سوى جبهة الحوثيين في اليمن (ولا يعني الأمر اختزال الأخيرين بالعامل الإيراني، فلهم قاعدة شعبية وثمة ديناميات محلية تفسّر صعودهم وإمساكهم الجزئيّ بالسلطة، لكنهم الحليف الإيراني الإقليمي المبادر عسكرياً الأخير).

على أن هذا "الخيار الصعب"، الذي ينبغي أن يُغيّر ثقافةً سياسية داخل حزب الله ويطوي تاريخاً حافلاً بالأحداث والتطوّرات والأدوار الأمنية والحربية التي لعبها منذ نشأته، يتطلّب بدوره سلوكاً مختلفاً من باقي القوى والجماعات الطائفية اللبنانية، أي من تلك التي كانت مستعدّة للاستقواء بدولة التوحّش والإبادة على الحزب ومريديه، ومن تلك التي تردّدت تجاه حسابات الربح والخسارة منتظرة ميلان الكفّة لتحديد التموضع الجديد، وأخيراً من تلك التي سعت على الدوام الى الغلبة في طوائفها أو مناطقها استقواء بالحزب الشيعي وبتحالفها الانتهازي معه.

وهو يشترط بموازاة كل ذلك أخيراً القبول باحتمال البحث في تطوير النظام اللبناني سياسياً، لا ليمكّن أحداً من "الطغيان العددي"، بل لتطبيق بنودٍ نصّ عليها الطائف أو بات من المُلزِم البحث فيها (السير في تخطي الطائفية السياسية مع استحداث مجلس شيوخ يُبقي التمثيل المتساوي أو المتوازن للجماعات، وتطبيق اللامركزية الإدارية الموسّعة، وتصميم قانون انتخاب جديد مع خفض سن الاقتراع وترك الحقّ للناخبين للاختيار بين مكان القيد أو السكن، والتفكير بسياسة تجنيس بعض المتحدّرين من أصل لبناني، ووقف التمييز ضد النساء، بما في ذلك القبول بحقّهن البديهي في منح الجنسية، إلخ...).

لا توجد إذاً خيارات أخرى أمام حزب الله ولا أمام لبنان. ولا يبدو في نفس الوقت أن الخيار الأسلم هو الأقرب الى المتناول اليوم. لكن البحث فيه ينبغي أن يبقى الأولوية الموازية لأولوية الإنقاذ الاقتصادي والمالي، كي لا يفوت الأوان على الجميع مرّة جديدة، قد تكون أسوأ من سابقاتها.

زياد ماجد

مقال منشور في ميغافون