Sunday, October 26, 2025

فلسطين كمرآة لنظام عالمي ولنقيضه

منذ أواخر العام 2023، وعلى امتداد العامين 2024 و2025، شهدت عواصم كثيرة حول العالم، خصوصاً في الغرب، حراكاً مدنياً واسعاً ضد الحرب الإسرائيلية على غزّة وما اتّسمت به من طابع إبادي، وضد تواطؤ الحكومات الغربية أو صمتها تجاهها، رغم استثنائية توحّشها في التاريخ الحديث. وشاركت نقابات واتحادات طلابية وشبكات نسوية وحركات ثقافية، إلى جانب ناشطين بيئيين وأطباء ومحامين وصحافيين وعاملات وعاملين إنسانيين، فضلاً عن أحزاب وهيئات يسارية، في تحرّكات وتظاهرات أسبوعية بدت فيها القضية الفلسطينية أبرز محاور الفرز السياسي الداخلي في المجتمعات المعنية، وأبرز قضية كونية مشتركة للملايين من المتظاهرين.

أضيف الى ذلك تنظيم آلاف الندوات وحلقات النقاش والاعتصامات الطويلة في الجامعات والبلديات، وإطلاق العشرات من المبادرات التثقيفية ونشر الكتب الجماعية والفردية الجديدة حول المسألة الفلسطينية في أطوارها المتعدّدة. وجرى البحث في العديد من الأوساط الأكاديمية في سبل تدريس ما يجري واختيار المصطلحات لتوصيفه ورفض الرقابة المفروضة على كل ما يتعلّق به. كما واكبت دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية سلسلة دعاوى رفعها محامون لجأوا إلى مبدأ الولاية القضائية العالمية في بلادهم من أجل ملاحقة بعض مرتكبي الجرائم الإسرائيليين، أو استندوا الى القوانين الوطنية المعمول بها لملاحقة مزدوجي الجنسية من بين الجنود المشاركين في الإبادة الجماعية في غزة. 

والأرجح أن أي دراسة لمعدّل أعمار المشاركين في كل هذا الفعاليات والمسؤولين عنها وعن أنشطة المقاطعة المواطنية لمؤسسات وشركات وماركات مسجّلة متواطئة مع السياسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، تظهر انخفاضه وارتباطه بجيل جديد يتسيّس على وقع ما يجري، ويسعى لامتلاك أدوات معرفية تحصّن انفعالاته الأخلاقية أولاً وتمدّها بزاد سياسي وحقوقي يجعلها ثقافته السياسية ومنطلق انخراطه في الشأن العام. وهذا أمر قد يكون تأسيسياً لمرحلة مقبلة سيتّخذ فيها الكفاح من أجل حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم فوق أرضهم منحىً جديداً يرى أصحابه في فلسطين القضية الأكثر تجسيداً للربط بين الكوني والمحلي ومؤدّيات ذلك في ظلّ خطورة اللحظة العالمية التي نعيش.

على أن هذه التعبئة ومبادراتها، والتحرّكات وفعالياتها التي أعادت رسم الجغرافيا السياسية للاحتجاج في قلب العالم الغربي، واجهتها قيود صارمة وسياسات رسمية مضادة، بلغ بعضها منذ عودة دونالد ترامب الى البيت الأبيض في واشنطن حدوداً غير مسبوقة من القمع وانتهاك القوانين واحتقار الأعراف الديمقراطية. فعلى المستوى المؤسّسي، تمّ تضييق مساحات التعبير، وتزايدت محاولات تجريم الدعم للفلسطينيين، مترافقة مع الاستخدام الممنهج لتهمة معاداة السامية كأداة لنزع الشرعية عن أي إدانة للإبادة التي تنفّذها إسرائيل. وعلى المستوى الإعلامي، بذلت كتل الضغط والمؤسسات الداعمة لتل أبيب جهداً هائلاً لبسط سيطرتها وتعميم سردياتها وتعقيم اللغة من المفردات القانونية ونزع الأنسنة عن الفلسطينيين وترهيب من يرفض الأمر، بما فيه من العاملات والعاملين في المؤسسات الإعلامية نفسها، ودفعهم الى ما يشبه الرقابة الذاتية تفادياً للفصل أو التهميش أو الصدام الدائم.

بموازاة ذلك، ومع تصاعد الدعاوى والضغوط القانونية على إسرائيل – من الشكوى التي تقدّمت بها جنوب أفريقيا، إلى تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية في جرائم الحرب في غزّة وما نتج عنها من مذكرتَي توقيف بحق بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه الأسبق يوآف غالانت، وصولاً الى تقارير المقرّرة الأممية حول حقوق الانسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة فرانشيسكا ألبانيزي – كشفت الأشهر الأولى من العام 2025 عن عمق عداء الإدارة الأميركية للقانون الدولي ولمؤسساته. فقد فرضت الإدارة المذكورة عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية (التي لم توقّع أصلاً على اتفاقية روما المنشِئة لها) وعلى مدّعيها العام كريم خان وعلى عدد من قضاتها، وكذلك على المقرّرة ألبانيزي، في محاولة واضحة لتقويض الجهد الحقوقي الدولي وتجريم من يسعون إلى توثيق الجرائم ومساءلة مرتكبيها.

هكذا تحوّل القضاة والمدّعون والمقرّرون الحقوقيون إلى أهداف سياسية، في سابقة تريد إعادة تعريف معنى الجريمة، إذ بات الاتهام ومثله العقوبة موجّهين لا إلى مرتكب الفعل الجرمي في حال كان حليفاً وثيقاً للأميركيين، بل إلى من يسعى إلى مقاضاته وتطبيق القانون عليه.

ولم يقتصر هذا المسار المعادي لمكتسبات العالم الحقوقية والعدلية على مستوى العلاقات الدولية. فقد ارتدت آثاره على الديمقراطيات الغربية نفسها، حيث ازدادت بفعل مواجهة الأنظمة الحكومية للتضامن مع الفلسطينيين الرقابة عامةً ومعها عنف الشرطة (كما نرى في ألمانيا على نحو خاص) وانتهاك القوانين والتجسّس على المواطنين بما يمسّ دورياً حرية التعبير والتنوّع الفكري واستقلالية الحياة الأكاديمية وحقّ المواطنين في التظاهر. كما تراجع النقاش حول كلّ هذا الانتكاس الديمقراطي لفترة قبل أن يعود ليفرض نفسه مؤخّراً بفضل إصرار المتضامنين مع الفلسطينيين على حقوقهم السياسية وعلى رفضهم للرقابة والابتزاز.

وقد دفع ويدفع ما جرى الى إعادة التفكير في معنى السياسة والممارسة الديمقراطية، وفي معنى العلاقة بين المحلّي والكوني، وفي مدى حماية منظومات القيم والحقوق والقوانين التي زعمت الدول الغربية رعايتها ودفاعها عنها جميع الناس، ولو نظرياً، بمعزل عن موقعها الجغرافي وهويّاتها ومواقفها السياسية.

من هنا، تبدو اليوم إعادة بناء الكونيّ وربطها بالمحليّ ضرورية بوصفها عملاً سياسياً يرفض الاستثناءات وازدواجيات المعايير والاستعداد للتضحية بثقافة حقوقية من أجل حماية منتهك محصّن. ومن هنا أيضاً تبدو فلسطين ومعها بلدان الشرق الأوسط بأسره، واقعاً أو مجازاً، مرآةً مزدوجة لأقبح ما في العالم المعاصر كما لأبهى ما فيه. ففيها من جهة ما يعكس وحشية القتل والتدمير والتجويع والعنصرية والإفلات من العقاب. وفيها من جهة أخرى، ما يعكس ديناميات التضامن والدعم وما يمثّل عنصر الربط بين الموضعي والعالمي، وبين السياسي والاقتصادي، وبين الفكري والواقعي.

وفي هذا وذاك تظهّر المرآة تفاصيل فظيعة كثيرة، وتظهّر في نفس الوقت ما يحول حتى الآن دون استتباب المشهد للفظاعة ولقباحاتها. 

زياد ماجد 

مقال منشور في ملحق القدس العربي