تتناقل وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة تقارير وصوراً متزايدة، من أكثر من بلدٍ، عن عمليات إعدامٍ مشهديّ لنساءٍ بعد خطفهنّ وتعذيبهنّ من قِبل أزواج أو أخوة أو أهل وأقارب أو ممثّلين عن هؤلاء جميعاً.
فمن العراق ولبنان حيث الدولة
منحلّة أو معطّلة والسلاح منتشر والقانون معلّق، الى مصر حيث التحرّش الجماعي
والاغتصاب يجدان من يبرّرهما في أوساط إعلامية وأكاديمية وأمنية (ويُستخدمان
أحياناً لأغراض سياسية)، الى أفغانستان حيث النزاعات والتطرّف والنظم القبلية تخصّ
النساء بفائض تنكيل يفاقم من مآسيهنّ، الى الارجنتين والبرازيل وتشيلي حيث للعنف
الجندري (بما فيه الاغتيالات وعنف الشرطة ضد المتظاهرات) خصائص واستهدافات سياسية وعنصرية،
وصولاً الى فرنسا حيث تُسمّي النسويّات الظاهرة المتوحّشة هذه
بالـ"فيمينسيد" أو "قتل النساء لأنّهن نساء"، في جميع هذه البلدان،
تتكاثر إذاً الأخبار والقصص حول جرائم يتعامل القضاء (إن وُجِد) مع مرتكبيها
"برأفة" أو تصبح جزءاً من ذاكرة دم وعنف وإرهاب معمّم.
ولا يمكن تفسير هذه الظاهرة
العالمية، وفيها أيضاً العنف الجنسي المعطوف على المجازر في مناطق الصراعات
العسكرية (في أنحاء مختلفة من أفريقيا وفي سوريا راهناً كما في البوسنة والقوقاز
سابقاً)، أو الاعتداءات والحرق لمسوّغات اقتصادية و"أخلاقية" في بعض
أرجاء الهند وباكستان، خارج نطاقَي استعباد النساء والرغبة في استملاكهنّ للخدمة
وتأمين استمرار النسل من ناحية، والخوف منهنّ وكراهيتهنّ إن شئن التصرّف بمصائرهنّ
وانتزاع حرّياتهنّ وقرارات العيش والعمل والتنقّل التي تخصّهن من ناحية ثانية. كما
لا يمكن النظر الى أعمال الاغتصاب المُمنهج خلال الحروب من دون اعتبارها وسائل
لجعل الجريمة تستمرّ بعد حدوثها، مُبقيةً ضحاياها مُنتهَكات وبيئاتهنّ الاجتماعية مطعونة
في ما تعدّه "شرفها" ومنقسمةً بين "العار"، وما قد تستعدّ
لفعله "غسلاً" له.
والعنف ضد النساء وصولاً الى القتل، في الحالات "العادية" أو الاستثنائية، يَعبُر بهذا المعنى الثقافات والحدود والأزمنة بمعزل عن أشكاله وأساليبه. فالقيم البطركية والمفاهيم الذكورية التي ترعاه واسعة الانتشار، متكيّفة حتى الآن مع التحوّلات الاجتماعية والثقافية والسياسية، وتجد لها في أوساط نافذة مدافعين شرسين عن أسسها ومراميها. ويمكن للنظر في الإحصاءات حول حصّة النساء من الثروات عالمياً، أو حول نسبة حضورهنّ في المناصب والمواقع القيادية في الدول والشركات، أو حول مدى مشاركتهنّ في المؤسّسات المقّرِرة تشريعاً دينياً أو وضعياً قوانين المجتمعات وأحوال من فيها "الشخصية"، أن تعطي فكرةً عن السيطرة الذكورية المطلقة التي تُنتج نُظماً سياسية واقتصادية واجتماعية وقانونية لا تُقيم للنساء اعتباراً يتخطّى وظائفهنّ البيولوجية والمنزلية. وهذا يفسّر مثلاً تأخّر "منح" النساء الحق في الانتخاب والترشّح في بلدان أوروبية حتى النصف الثاني من القرن المنصرم واستمرار التمييز ضدّهن في الدخل حتى الآن، ويفسّر أيضاً منع النساء الى اليوم من منح الجنسية لإبنائهنّ وبناتهنّ إن تزوّجن من أجانب في بلدان عدة (من بينها جميع بلدان المشرق والخليج العربيّين)، ويفسّر كذلك تخفيف العقوبات على قتلتهنّ إن عُدّت ظروف القتل "عاطفية" أو على صلة بقضايا "شرف" و"أخلاق" وغير ذلك من مصطلحات متداولة، ويفسّر أخيراً وليس آخراً السعي للانتقام منهنّ إن تعذّر القتل أو استمرار التملّك عبر منعهنّ في حالات كثيرة من الإرث أو من حضانة الأطفال ورعاية "النسل" الذي يُراد له إعادة إنتاج النظم والقيَم والقسوة إياها.
ويحيلنا كلّ هذا، على تعدّد
حقوله ومستوياته، الى مسألة الخوف والذكورية التي فكّكت عراها أدبيات نسوية
وبسيكولوجية منذ عقود طويلة. ذلك أن البنى البطركية والسطوة الذكورية التي تمارِس عادةً
العنف الرمزي تستدعي، كما كلّ سلطة مطلقة، العنف الجسدي ما إن تتعرّض سيطرتها
لتهديد أو تحدّ. ينطبق هذا على الحقل العام (المجتمع) كما على الحقل الخاص
(العائلة أو المنزل)، وتصبح النساء، بالتالي، هدفاً للعنف وأجسادهنّ مساحةً له،
والجرائم الفردية والجماعية ضدّهن بمثابة الرسائل لجنسهنّ بأسره، في الموضع
المعني، بأن مواجهة البنى القائمة والقوّامون عليها يستجلب العقاب والثأر وصولاً
الى التهلكة.
ولا يبدو أن ثمة ما يحدّ من ميول السيطرة والتحكّم والعنف، وما تولّده من خوف ومن عزم على تأكيدها، سوى الأطر التشريعية المضادة التي فرضها الكفاح النسوي الطويل وحسّ العدالة الذي قرّرت نخبٌ في مجتمعات قليلة السير فيه وتوفير المستلزمات المادية لتعميمه وتطبيقه، كي يتحوّل مع الوقت، ومع الجهود التربوية والحملات المجتمعية والترجمة السياسية، الى ثقافة جديدة، أو الى جانب أساسي من هكذا ثقافة. يسري الأمر في البلدان الاسكندنافية وفي نيوزلندا وسويسرا وهولندا وبلجيكا وألمانيا والنمسا منذ سنوات، وبدأ يظهر في إيرلندا وإسبانيا مؤخّراً. وفي هذا ما يُبيّن أن القانون والإجراءات العقابية الصارمة تجاه كل عنف يستهدف النساء، تمييزاً سياسياً واقتصادياً كان أو ثقافياً وتعليمياً واجتماعياً أو انتهاكاً جنسياً أو قتلاً، وإيجاد أجهزة ووسائل عينيّة لاحترام فرض القانون وتبعاته، هي وحدها الكفيلة بمواجهة الجرائم والاستباحات والفظاعات التي تتعرّض لها النساء، وتحسين شروط وجودهنّ وحياتهنّ في الحيّزين الخاص والعام.
وإذا كان في ذلك ما يفاقم الخوف الذكوري في بلدان تخطو ببطء نحو تغييرٍ يفرضه مجهود النساء وتبدّل ذهنيات بعض الرجال ويدفع راهناً للمزيد من العنف والانتقام، فوحده التسريع في اقتراح القوانين وتكثيف الأنشطة ومبادرات التوعية والضغط الحقوقي المحلي والأممي على المسؤولين السياسيين وشركائهم الاقتصاديين والإعلاميين هو الردّ المناسب، معطوفاً بالطبع على تطبيقٍ لأقسى العقوبات بحقّ المعنِّفين والمجرمين.
والحركة النسوية التي باتت منذ فترة قوّة يُحسب لها حساب في العديد من المجتمعات على الرغم من محاولات التشهير بها والبحث عن شرذمتها ووقوع بعض أطرافها في فخّ الانقسامات، تجد نفسها اليوم أمام المزيد من التحدّيات والاستحقاقات. والجيل الذي يُطلق منذ عقد الانتفاضات في دنيا العرب وفي العالم على موعد مع أسئلة متجدّدة حول الحقوق والحرّيات والمساواة، لن يكون قتل النساء والتشنيع بهنّ أكثر من محاولات تأجيل إضافي لمنع تداعي بعض دعائم السطوة البطركية الرافضة لهكذا أسئلة، ولَو أن تهاوي هذه السطوة النهائي ليس بعدُ بالأمر القريب...
زياد ماجد
مقال منشور في ملحق القدس العربي