تخوض حركة طالبان منذ عودتها التدريجية الى حُكم معظم الأراضي الأفغانية ودخولها عسكرياً قبل أيام الى العاصمة كابل أربع حروب متوازية.
الحرب الأولى هي لتثبيت سيطرتها العسكرية والسياسية على
البلاد. وقد اعتمدت فيها استراتيجية مختلفة عن تلك التي اعتمدتها خلال صعودها
الأول في تسعينات القرن الماضي. ذلك أنها لم تركّز هذه المرّة على المناطق
الباشتونية في الجنوب، بل تقدّمت من بؤر نشطت فيها عسكرياً ضد القوات الأميركية
والحكومية في السنوات الماضية في مختلف الأقاليم، وبسطت سيطرتها تدريجياً على مناطق
محاذية للحدود الشمالية (حيث الديموغرافيا بأكثريتها طاجيكية وأوزبكية وتركمانية)
والغربية (حيث أكثرية من الطاجيك والباشتون) في نفس وقت تقدّمها في الوسط (حيث
أكثرية الهزارة) وفي الشرق والجنوب بمحاذاة الحدود الباكستانية (حيث خلاياها
ومؤيّدوها الكثر في الأوساط الباشتونية موجودون على جانبَي الحدود). وقد كان لهذه
الاستراتيجية أن منعت تشكّل جبهة واسعة ضدها في المناطق الطاجيكية والأوزبكية وفي
مناطق الهزارة (كتلك التي عُرفت بتحالف الشمال قبل عشرين عاماً)، وحالت كذلك دون
قيام أي طرف باشتوني منافس لها بتنظيم نفسه أو بالتجرّؤ على تحدّيها في المناطق
الباشتونية، ثم في العاصمة نفسها.
واستفادت طالبان لتفعيل وحداتها وإعادة هيكلة قواتها وخلاياها من الانكفاء الأميركي التدريجي منذ عهد أوباما الذي لجأ الى القصف الجوّي بطائرات مسيّرة مقابل سحب وحدات جيشه المقاتلة على الأرض، وهي سياسة استمرّ فيها ترامب وأوصلها بايدن الى خواتيمها، أي الانسحاب الكامل. كما استفادت من علاقات مخابراتية تخطّت الأجهزة الباكستانية التي كانت صلة الوصل بها في السابق وبلغت الأجهزة الروسية والإيرانية التي استثمرت في بعض عمليّاتها لإضعاف الأميركيين وإرباكهم في بلد أنفقوا على تدخلّهم فيه مئات مليارات الدولارات منذ إعلان "حربهم على الإرهاب"، ولم ينجحوا في تشكيل حكومات مركزية قوية أو ذات مشروعية شعبية واسعة. وهذا يقود الى القول باستفادة ثالثة للطالبان، هي تلك المستمَدّة من هشاشة المؤسسات السياسية والعسكرية والأمنية والخدماتية التي قامت بعد العام 2001 وانتشار الفساد والزبائنية والحسابات الإثنية فيها، التي همّش بعضها الباشتون، وخلق في الكثير من أوساطهم مظلومية غذّت صفوف الطالبان بالمقاتلين والمتعاونين.
حرب حركة الطالبان الثانية هي على فئات محدّدة من المجتمع الأفغاني، لا سيما النساء العاملات والناشطات اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً والمقدّمات نماذج يعدّها مسؤولو الحركة تهديداً للنموذج الإسلامي الذي يبشّرون به. ومع النساء المذكورات، يستهدف الطالبان الرجال "المتّهمين" بالتغرّب أو بالتعامل خلال العقدين الأخيرين مع الحكومات الأفغانية المتعاقبة، وبالأخص منهم المترجمين والموظّفين في منظمات وهيئات قامت بتمويل أميركي أو أوروبي أو دُولي. وهذا يعني أن قسماً من الشعب الأفغاني، لا سيما في العاصمة وفي مدن الأقاليم الكبرى، سيجد نفسه محاصراً بإجراءات قمعية وثأرية و"عقابية" تهدف الى الترهيب وبسط السطوة بالعنفَين الجسدي والرمزي. وهذا يعني أيضاً، وفي المقابل، أن الحياة لن تتغيّر بالنسبة الى قسم آخر، كبير، بعيد كل البعد عن ديناميات الحياة المدينية ومؤسساتها وحساباتها وشبكات علاقاتها.
الحرب الثالثة هي الحرب على خلايا "داعش" وعلى ما تبقّى من هياكل "المجاهدين الأجانب". وهي حرب ذات حسابات داخلية وخارجية، إذ يريد الطالبان أحادية سيطرة على الحقل العنفي ومصطلحاته الجهادية (والدينية عامة) ومنع أي طرف داخل الأراضي الأفغانية من المزايدة عليهم في هذا المجال. كما أنها حرب تعكس في جانب منها حرب "القاعدة" على "داعش"، وقُرب الطالبان لقيادة "القاعدة" في هذه الحرب. وهي أخيراً رسالة طمأنة الى الخارج مفادها رفض تحوّل أفغانستان من جديد الى أرض "جهاد أممي" والى مركز منظّم للإرهاب العابر للحدود.
وهذا يقود الى فهم الحرب الرابعة، وهي حرب الديبلوماسية والعلاقات العامة الهادفة الى انتزاع اعترافات دولية. فإضافة الى قنوات الاتصال والتواسط التي توفّرها لهم المخابرات الباكستانية، وإضافة الى بعض العلاقات مع الأجهزة الروسية والإيرانية التي أشرنا إليها، أوجد الطالبان قنوات اتصال مباشر بالصينيين والأتراك عشيّة المفاوضات مع حكومة كابل وداعميها الأميركيين في الدوحة في قطر، والتي أفضت الى اتفاق لم يُحترم، ولم يعُد له أصلاً أي تأثير على مسار الأمور اليوم. ويريد الطالبان من علاقاتهم، كما من إظهار حزمهم ضد "داعش"، استدراج مفاوضات جديدة معهم، أمنية واقتصادية، تكون مقدّمة لاعتراف سياسي مباشر أو ضمني بسلطتهم. ويملكون لذلك أوراقاً عديدة، من "ملف الأفيون" الى ملفّات خطوط الأنابيب النفطية والغازية، الى البنية التحتية التي لم تكتمل أي من مشاريع تطويرها وصولاً الى استراتيجية موقع بلادهم ومصالح الأطراف الدولية والإقليمية الكبرى في التواجد فيها. وهم يعوّلون لذلك على إظهار انفتاح ديبلوماسي وطمأنة الأجانب المقيمين في أفغانستان كما السفارات والبعثات الديبلومسية بأن حمايتهم مضمونة وأن لا ضرورة لمغادرتهم البلاد (باستثناء من يعمل ضمن بعثات تعليمية أو برامج الدعم الثقافي و"تمكين النساء" و"توسيع المشاركة السياسية" ومثيلاتها).
على أن نتائج الحروب الأربع المذكورة ليست مضمونة
للطالبان بالمقدار ذاته. فباستثناء الحرب الثانية على قسم من المجتمع ونسائه التي
يمكن للعنف أن يفرض لفترة منطقه وسيادته فيها، تبدو الحروب الثلاث الأخرى مرتبطة
بمدى قدرة الحركة على فرض "استقرار" أمني ومنع اندلاع مقاومات عسكرية لها،
قد تتحوّل الى حرب أهلية جديدة، لا شكّ أن جميع الأطراف الخارجية قادرة على
الاستثمار فيها، وعلى تأجيل تعاملها "الواقعي" مع موازين القوى التي
فرضها الملّا هيبة الله والملّا عبد الغني والملّا يعقوب والزعيم سراج الدين
حقّاني وباقي قادة الطالبان في الأسابيع الأخيرة.
وهذا إن حصل، يعني أن أفغانستان قد تدخل قريباً في مرحلة جديدة من الصراعات الضارية. ويعني كذلك أن هذا البلد المنكوب الذي تحجب الأحداث و"الجيوستراتيجيا" منذ عقود ديناميات مجتمعه المتنوّعة ووُجوه ناسه وثقافاتهم وحيوياتهم وعلاقاتهم وتطلّعاتهم وتفاصيل عيشهم اليومية في ما خلا الموت واللجوء والهجرة ومشهدية العنف وصولاً الى التساقط من الطائرات، سيستمر في جميع الأحوال في المعاناة لسنوات طويلة قادمة.
ويفيد التذكير هنا أن مآسي أفغانستان الكبرى لم تبدأ العام
2001، عام القصف والغزو الأميركي "ثأراً" لهجمات 11 أيلول/سبتمبر وما
تخلّل ذلك وتبعه من جرائم حرب أميركية وغربية موازية لسوء التدبير السياسي. بل هي
بدأت فعلياً العام 1979، عام الغزو السوفياتي الذي قتل عشرات الألوف من المدنيين وارتكب
المجازر والفظائع دفاعاً عن انقلابيين تناتشوا السلطة وأعدم بعضهم البعض الآخر بعد
إطاحتهم بالحكم الملكي. والغزو السوفياتي هذا وسنوات الحرب التي تبعته أسّست
لتدخّلات أميركية وباكستانية وسعودية وسمحت بتحويل أرض الأفغان الى أرض جهاد وحروب
لم تنته حتى الآن، والأرجح أنها لن تنتهي قريباً.
مقال منشور في "ميغافون" بتاريخ 20 آب/أغسطس 2021