ملخّص تنفيذي
دمّر انفجار ضخم مرفأ بيروت وبعض الأحياء والمرافق المحيطة به، وتسبّب بمقتل وجرح الآلاف وتهجير عشرات الآلاف الآخرين. ودفع الانفجار، الذي حمّل أكثر اللبنانيين سلطات بلدهم المسؤولية عن وقوعه بسبب الفساد والإهمال، حكومة حسان دياب الى الاستقالة، في لحظة استعادة الانتفاضة الشعبية أنفاسها وعودة المظاهرات والاعتصامات الى الشوارع، وفي لحظة اندفاع الديبلوماسية الفرنسية للعب دور تريده باريس إنقاذياً وراعياً لتفاهمات وإصلاحات تتخطّى لبنان نحو عدد من الدول الداعمة لقواه المتخاصمة، ونحو تكريس حضور فاعل لها في شرق البحر المتوسّط.
غير أن الدور الفرنسي قد لا ينجح في إنتاج سلطة مقبولة داخل لبنان وخارجه، نتيجة قناعة ترسّخت داخلياً أن لا إنقاذ ممكناً في ظل الطبقة السياسية الحاكمة، ونتيجة حسابات أطراف خارجية فاعلة تُؤْثِر المحافظة على ستاتيكو محلّي وإقليمي بانتظار جلاء الموقف في واشنطن بعد الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني/نوفمبر 2020.
بذلك، تبدو الساحة اللبنانية مقبلة على استمرار في الأزمات السياسية والمالية والاقتصادية، ولو مع دعم مشروط تحشده باريس لتقليص الخسائر ومحاولة إيجاد تفاهمات بين حزب الله وبعض خصومه المحليين يمكّنها من التحوّل مرجعاً للشؤون اللبنانية وعرّاباً للاتصالات الإقليمية حولها.
مقدّمة
دمّر انفجار ضخم، في الرابع من آب/أغسطس 2020، مرفأ بيروت وعدداً من الأحياء السكنية والمرافق العامة المحيطة به. وقتل الانفجار الذي تلى حريقاً لم تُعرف أسبابه بعد، عشرات المواطنين واللاجئين والمقيمين، وجرح الآلاف، وتسبّب في تهجير أكثر من مئة ألف شخص.
وفي وقت يتواصل التحقيق الذي تدّعي السلطات اللبنانية إجراءه لمعرفة أسباب ما جرى، لا يثق معظم اللبنانيين بما قد يصدر عن المحقّقين، لأسباب مرتبطة بانعدام الكفاءة والشفافية وبتراكم فضائح الفساد وسوء الإدارة، إضافة الى تناقض الروايات حول ظروف وجود كميات ضخمة من نيترات الأمونيوم داخل حوض المرفأ منذ أواخر العام 2013 رغم خطورة الأمر ورغم وجود مراسلات إدارية وأمنية حوله لم تفضِ الى أي معالجة أو حتى متابعة جدّية من قبل المسؤولين.
سقوط حكومة العهد والمبادرة السياسية الفرنسية
على أن الانفجار الذي أحدث ذهولاً وغضباً شعبياً أدّى أيضاً الى استعادة الانتفاضة اللبنانية بعض زخمها المفقود منذ أشهر. فشهد وسط العاصمة بيروت مظاهرات حاشدة وعملّيات احتلال لوزارات وإدارات عامة، وتعليق مشانق رمزية لأركان السلطة الثلاث، رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس المجلس النيابي نبيه بري ورئيس الحكومة حسّان دياب ولعددٍ من المسؤولين السياسيين، بينهم رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري وأمين عام حزب الله حسن نصر الله الذي استهدفته الهتافات أكثر من غيره، إن بسبب حماية حزبه للسلطة القائمة أو بسبب اعتبار البعض أن للحزب علاقة بتخزين الأمونيوم، أو على الأقل بالسكوت الرسمي عنه، وهو الحاضر أمنياً في معظم المواقع الحسّاسة في البلد (ومنها المرفأ والمطار).
وأدّى الانفجار كذلك الى استقالة الحكومة اللبنانية وعدد من النواب إثر تحرّك ديبلوماسي فرنسي توّجته زيارة خاطفة للرئيس إيمانويل ماكرون الى بيروت، تبعها مؤتمر للمانحين وتكرار لمشروطية المساعدات على أساس السير بإجراءات لوقف الفساد وضبط الهدر وإصلاح الإدارة والمالية وإنهاء التهريب على الحدود السورية.
وإذا كانت مواجهة الفساد والبدء بإصلاحات جادة يتطلّبان حكومة من خارج المنظومة الحاكمة منذ عقود بمكوّناتها المتحالفة والمتخاصمة، فإن الضغوط الفرنسية لا تبدو دافعة نحو هذا الأمر بقدر دفعها نحو تسويات سياسية بين حزب الله وحليفه العوني من جهة وسعد الحريري وحلفائه من جهة ثانية لتشكيل حكومة إنقاذية (مع فتح الباب لشخصيات مستقلة من خارج الاصطفافات لتنضمّ إليها)، والعمل على إقناع واشنطن وطهران والرياض بتجنّب المواجهات لبنانياً وإتاحة الفرصة لباريس للقيام بأدوار وساطة وتنسيق للمساعدات الإنسانية والمادية لتأمين الاستقرار.
العامل الأول خاص باعتبار فرنسا لبنان وثيق الصلة بها لأسباب تاريخية (تأسّس بحدوده الراهنة سنة 1920 في ظل الإنتداب الفرنسي) وثقافية (تجمعه بها الرابطة الفرنكوفونية والمؤسسات التعليمية). وهو بسبب موقعه الجغرافي الشرق متوسّطي، مدخل نحو منطقة استراتيجية اقتصادياً تراجع فيها التأثير الفرنسي لصالح لاعبين إقليميين (أنقرة وأبو ظبي والدوحة والرياض وطهران)، وطبعاً لصالح واشنطن وحليفتها الوثيقة إسرائيل، مع عودة روسية مؤخراً من خلال التدخل العسكري في سوريا. وفرنسا بهذا المعنى بحاجة الى موقع يتيح لها البقاء الفاعل في المنطقة.
العامل الثاني متعلّق بكون باريس اللاعب الدولي والإقليمي الوحيد القادر على التواصل مع جميع القوى اللبنانية ورعاتها الإقليميين، بما في ذلك حزب الله، الذي تمنّعت فرنسا عن تصنيفه إرهابياً على نحو ما فعلت نظيراتها الغربية. وهذا يمنحها هامش تحرّك لا تملكه باقي القوى، بمن فيها موسكو التي لم تستثمر سياسياً في الساحة اللبنانية ولا تملك مقوّمات العون الاقتصادي لتواضع حجم اقتصادها وأزماته المتكّررة، رغم أنها بدورها تستطيع التواصل مع الأطراف الإقليمية جميعها.
أما العامل الثالث فمرتبط بالروزنامة الانتخابية الأميركية. فإدارة ترامب تركّز في أشهرها الأخيرة قبل يوم الانتخاب في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل على اختراقات عربية إسرائيلية تمكّنها من القول بتحقيق تقدّم في مسار "السلام"، وعلى إصدار قوانين تشدّد العقوبات على إيران، في حين تتراجع باقي اهتماماتها الشرق أوسطية. وهي إن فاز ترامب بولاية جديدة ستستمرّ على الأرجح بنفس السياسات. أما إن فاز المرشّح الديمقراطي جو بايدن، فسيحتاج لأشهر كي يضع مقارباته الدولية الجديدة (المستمدّة غالباً من مقاربات إدارة باراك أوباما) حيّز التنفيذ. وهذا يعني أن الأشهر المقبلة لن تشهد مبادرات أميركية أو تغيّرات سريعة. وتعتبر باريس أنها خلال الفترة المذكورة يمكنها إطلاق ديناميات لا تستفزّ واشنطن من ناحية ولا تلتزم بحدود خياراتها من ناحية ثانية، فتسمح بالتالي للديبلوماسية الفرنسية بإجراء بعض المفاوضات والترتيبات لبنانياً والتسويات إقليمياً بما يؤّدي الى أخذ واشنطن لها بعين الاعتبار لاحقاً (خاصة إن كان الرئيس الجديد هو بايدن).
التحدّيات المقبلة
لكن الدور الفرنسي قد لا ينجح في إطلاق الديناميات المنشودة أو إحقاق التفاهمات اللبنانية، والإقليمية حولها، لأسباب مختلفة.
فلا الداخل اللبناني يمكن أن تتحسّن أحواله في ظل طبقة سياسية أثبتت على مدى العقدين الأخيرين فسادها وفشلها في إدارة الأزمات التي تتسبّب بها أو حلّها، فأكتفت في أفضل الأحوال بالتعايش مع بعض هذه الأزمات وتأجيل الخوض في بعضها الآخر الى أن حدث الإفلاس المالي والانهيار الاقتصادي وقامت الانتفاضة الشعبية في تشرين الأول/أكتوبر 2019 في وجهها.
ولا إيران وأميركا جاهزتان للقبول بقيادة فرنسية دائمة في لبنان تحدّد لكلّ منهما ضوابط اللعبة وقواعدها. فطهران لا تبحث عن غير كسب الوقت في انتظار تغييرٍ جذري في واشنطن. والأخيرة لا ترى في غير تكثيف الضغط عليها راهناً ما قد يحاصرها ويصعّب على أي إدارة العودة عن قرارات وآليات عقوبات يتطلّب تعديلها أو إلغاؤها إجراءات طويلة. ولا إسرائيل راضية عن التواصل الفرنسي مع حزب الله والتعامل معه بوصفه طرفاً سياسياً لبنانياً مثل غيره.
أما الدول الساعية لتوسيع أدوارها في المنطقة وترسيخ نفوذها، لا سيّما الإمارات وتركيا، فتُبدي كلّ منها اهتماماً متزايداً بلبنان وبمشاريع إعادة إعمار مرفأ عاصمته. ومن المرجّح أن تكون الأولى مسهّلة للدور الفرنسي، خاصة أن أبو ظبي وباريس متحالفتين في ليبيا ومتعاونتين في المجالات العسكرية والأمنية. في المقابل، تبدو الثانية، أنقرة، أقل ترحيباً بالدور الفرنسي بسبب التوتّرات شرق المتوسّط والمواجهات في ليبيا. وهي إذ تبقي خيط تواصل مع الفرنسيين عبر قنوات أوروبية وأطلسية، تدرك أن لحليفتها قطر دوراً اقتصادياً ممكناً في لبنان أيضاً، ويمكن أن تنسّق مع الدوحة لتحديد ملامحه وسبل استثماره.
بموازاة ذلك، تُظهر المملكة العربية السعودية حذراً تجاه التطوّرات اللبنانية. إذ لا تريد لإيران الاستفادة من أي تقليص للضغط الأميركي على حلفائها، وفي طليعتهم حزب الله. كما لا تريد للاعبين إقليميين آخرين الدخول الى ساحةٍ كانت ولغاية العام 2015 لاعباً أساسياً فيها. وهي إذ انكفأت منذ ذلك الوقت نسبياً عن لعب أدوار أساسية وتخلّت نسبياً أيضاً عن حليفها سعد الحريري، تعتبر أن مجرّد قرار منها بالعودة سيسمح لها باستعادة ما فقدته طوعاً. ولا تريد بالتالي أن يملأ الفراغ بانتظار قرارها من يمكن أن ينافسها.
خلاصة
وسط كل هذه المعطيات، تستمر الأزمة المالية الخانقة، وتنعدم فرص بلورة فلسفة اقتصادية مالية إنقاذية في البلد. وتستمرّ محاولات الانتفاضة الشعبية تنظيم نفسها واحتلال الحيّز العام والضغط على السياسيين والمصرفيّين اللبنانيين وعلى جميع الأطراف الإقليمية والدولية من أجل تعديل موازين القوى وفرض تغيير يُطيح بحُكم يحمّله أكثر المواطنين مسؤولية الكارثة التي وصل بلدهم إليها. والواضح أن دون ذلك حتى الآن عقبات كبرى، أبرزها داخلياً حزب الله، الوحيد بين الجماعات السلطوية المحافظ على قوّته بسبب ترسانته المسلّحة وسعة قاعدته التمثيلية داخل الطائفة الشيعية، رغم تراجع هيبته وتصاعد الانتقادات له في أوساط كانت تتجنّب الأمر سابقاً. وأبرز العقبات خارجياً، صعوبة المهمّة الفرنسية في تحييد التوتّر الأميركي الإيراني عن المساق السياسي اللبناني...
زياد ماجد