Saturday, September 26, 2020

انفجار بيروت بوصفِه احتضار بلدٍ نهشته سلطاته وماتت فلسفة حُكمه

ليس بلا دلالات أن يتزامن انفجار بيروت مع انهيار لبنان الاقتصادي وتصدّع مجتمعه وانحدار حكّامه الى قعر غير مسبوق في تاريخه.

فالانفجار الناجم عن سنين من الفساد والإهمال والبحث عن صفقات أو عن توظيف عسكري لمادة نترات الأمونيوم المخزّنة في عنبر في مرفأ بيروت، في قلب العاصمة اللبنانية، بدا مآل ما تُفرزه إدارة طبقة سياسية ميليشياوية للشأن العام في بلد جرى تناهبه من داخل النظام الطائفي وشبكاته، على نحو أدّى الى تهتّك مؤسساته جميعها وإفلاسها وإفقار ناسه وحجز ما تبقىّ من أموال مواطنيه في المصارف الخاصة الشريكة في سياسات استدانةٍ وتوزيع مغانم وإنفاقٍ بلا وازع أو طائل.

والانفجار الفظيع هو أيضاً، مثله مثل مغارة كهرباء لبنان التي امتصّت على مدى ربع قرن أكثر من ثلاثين مليار دولار وظلّت مقطوعة عن الناس، ومثل قضية النفايات التي لم يتفّق أركان الحكم على تفاصيل المحاصصةِ إدارةً لجمعها فتُركت لتُرمى في البحر أو تُطمر في التربة، نتاج ترنّح فلسفة حكمٍ لم يعد من إمكانية حياة في ظلّها. 

أفول التوافقية بعد قرنٍ على تأسيس وطنها 

ذلك أن فلسفة التوافقية التي قام على مبدئها تقاسم السلطة في لبنان بين ممثّلي الكتل الطائفية الكبرى، منذ دستور العام 1926 ثم ميثاق العام 1943 وصولاً الى اتفاق الطائف العام 1989، تحوّلت من صيغة مؤقّتة لطمأنة الجماعات الأهلية وتجنّب الهيمنة أو التهميش الى مسار من التصارع على الحصص وعلى ما يُفترض أن تُمليه بعض الخصائص الديموغرافية. والصلاحيات السياسية التي قيل بتوازنها عبر توزيع المناصب الرئيسية على الموارنة والسنّة والشيعة، تسلّلت الى الإدارة والخدمات والاقتصاد وصارت زبائنيةً تستجدي العصبيات وتستثيرها انتزاعاً لموازنة أو لصفقة أو لتعيينات.

والحيلولة دون استبداد أو استئثار طرف وحيد بالسلطة نتيجة المعادلات الطائفية لم تمنع نشوء الأمر نفسه داخل كل طائفة، خاصة بعد قيام الحرب الأهلية وانتشار مقولات من نمط "توحيد الصف" أو "وحدة الطائفة" بهدف شحذ الهمم لحظة الصراع والدفاع عن "الحقوق" لحظات التسويات والاتفاقات. وهذا ما جعل التمثيل السياسي ينحو بعد الحرب نحو احتكارات لتمثيل الطوائف يصعب مع أي صدام بين المحتكِرين تجنّب الاستعار المذهبي المُستجدى من أسياده لتحسين مواقعهم.

والتوافقات التي نُصّ عليها عند تشكيل السلطة التنفيذية لضمان النصاب "الميثاقي" والقوام الوطني تحوّلت مادة للتعطيل والابتزاز، ليس أكثر دلالة عليها من البطء الدائم في تشكيل الحكومات، ومن الفراغ المزمن في موقع رئاسة الجمهورية الذي لم يحصل انتخابٌ عادي واحدٌ له منذ العام 1982. فالاجتياح الإسرائيلي يومها فرض رئيساً صرعه اغتيالٌ ليحلّ شقيق الصريع مكانه. وانتهاء الولاية الرئاسية بعد ست سنوات لم يتبعه غير فراغ وتنازع على مشروعية الحُكم ثم انتخاب رئيسٍ أراد التسوية والمصالحة فقُتل، ليُنتخب محلّه رئيس آخر، جرى بعد ستّ سنوات تعديل الدستور لتمرير التمديد له. فكان الأمر فاتحة انتهاكاتٍ دستورية فرضها النظام السوري المهيمن وتكرّست العام 1998 عند انتخاب قائد الجيش رئيساً، ثم العام 2004 تمديداً له، وتكراراً العام 2008 عند انتخاب قائد جيش آخر، وصولاً الى فراغ رئاسي لم يُنهِه سوى انتخاب قائد جيش أسبق في العام 2016، كان نفسه المرشّح الخائب والإشكاليّ العام 1988، أي قبل ثمانية وعشرين عاماً! 

على أن كل ذلك جعل الداخل اللبناني الى وهنه وانقساماته، شديد الهشاشة في علاقته بالخارج، الإقليمي خاصة، عُرضة للاستخدام ساحة صراعات وتسوية حسابات، أو منطلق استقواءٍ لتحسين حضور وانتزاع امتيازات. وهذا ما دفع الأطراف الطائفية في لبنان الى البحث دوماً عن رُعاة خارجيين، ودفَع الأخيرين الى اختيار حلفاء لهم يتحوّلون عند الضرورة الى عملاء معدومي السيادة على القرارات الأساسية. وقد تطوّر الأمر في السنوات التالية لخروج النظام السوري من لبنان الذي كان، خلال احتلاله البلد واستباحته سياسياً وأمنياً ومالياً، مرجعيّة خارجية وحيدة مرضيّاً عنها (حتى العام 2003 على الأقل) أميركياً وفرنسياً وسعودياً وإيرانياً. فتبع خروجه المبني على اغتيال رئيس حكومةٍ تنازعٌ إيراني سعودي ترجمه تنازع شيعي سنّي على قيادة البلد بعد تراجع نجم مسيحيّيه (لتهميش النظام السوري لهم بعد الحرب ولانحسار حضورهم الديموغرافي ولأوهامهم السياسية التي حلّت مكان الحسابات الدقيقة وما تقتضيه من مواقف).

حزب الله، أو فائض القوة التي لا يستقيم معها عقد سياسي

ولعلّ ما تكشّفت عنه وقائع السنوات التالية للعام 2005 واصطفافاتها الكبرى بعد اغتيال الحريري، مواجهةً للنظام السوري أو موالاةً له، هو فائض قوّة حزب الله المسلّح، واستعداده لتوظيف الفائض المذكور ضبطاً للوضع اللبناني على الإيقاع الإيراني المتصاعد منذ اجتياح أميركا للعراق وسقوط صدّام حسين. فالاستناد الإيراني الى حلفاء أقوياء في بغداد يُتيحون عبوراً للتأثير الإيراني نحو الحليف السوري ومنه الى الحزب الشيعي اللبناني، وفّر لطهران تمدّد نفوذٍ جغرافي وعمقاً استراتيجياً ووضعها على ضفاف المتوسّط وعلى حدود إسرائيل. وظهّرت حرب تموز 2006 بين حزب الله وإسرائيل التموضع الإيراني هذا وخط التماس الإقليمي بين طهران وتل أبيب. كما ظهّرت المقتلة السورية المستمرّة منذ اندلاع الثورة الشعبية ضد نظام الأسد العام 2011، استماتة الحزب في نُصرة حليف إيران في دمشق ودفعه بآلاف مقاتليه الى الحرب بعيداً عن حدود لبنان وعن الصراع مع إسرائيل، حجّة سلاحه المستمرّة وأصل مشروعيّته الشعبية منذ نشأته وصعوده العسكري بعد الاجتياح الإسرائيلي وطيلة سنوات احتلاله للجنوب، وما تخلّلها من جولات حرب أهلية وتصفيات وتبدّلات عميقة في البيئة الشيعية.

غير أن العبء الحزب إلهي على السياق اللبناني لا يتوقّف عند ولائه الإيراني، المترجم حروباً وبنية عسكرية تفوق في عدّتها وعديدها قدرات الجيش اللبناني. بل صار يتخطّاه الى تحكّمٍ بمفاصل الأمن في البلد وسيطرةٍ على أكثر مواضع السلطة السياسية والإدارات العامة فيه، خاصة بعد إيصاله حليفه الماروني ميشال عون الى رئاسة الجمهورية وتشكيله وباقي الحلفاء أكثرية نيابية تُتيح تحكّماً بالسلطتين التشريعية (التي سبق أن عطّلها لسنوات حين لم تكن الأكثرية الى جانبه) والتنفيذية. ويمكن لمراقب أن يقول إن في ذلك ترجمة أمينة لقوة الحزب ومهارته السياسية في توسيع شبكة المريدين له بين سائر القوى الطائفية اللبنانية، أو إن الولاء لطرف خارجي ليس حكراً عليه، فأبرز خصومه يوالون السعودية. وهذا في الظاهر صحيح. لكن الفارق الذي يُطيح بالصحة المشار إليها هو في السلاح واستخدامه الذي لا يملكه سواه، وفي الرابط الايديولوجي الذي لم يشهد لبنان بتاريخه ما يوازيه، وفي متانة العلاقة المؤسساتية المادية بالمؤسسات الأم في إيران، كما في اعتماد الحزب السياسة كأداة حماية للعسكر ولشروط تفرّغهم للحروب الإقليمية.

وقد أظهرت التطوّرات السياسية اللبنانية المتسارعة منذ 17 تشرين الأول 2019، يوم انطلاق الانتفاضة ضد الطبقة السياسية ونظامها وضد شريكة النظام في الإفلاس المالي – أي جمعية المصارف الخاصة – أن حزب الله ظلّ القوة السلطوية الوحيدة المتماسكة، وأنه شنّ هجوماً مضاداً على الانتفاضة واستخدم العنف وسيلة لقمعها وحمى السلطة من الانهيار بعد استقالة الحكومة، فشكّل حكومة تُواليه، بعيداً عن فلسفة النظام التوافقية بتوازناتها ومراميها المتهالكة، فارضاً بالتالي (وللمرة الثانية خلال عقد بعد حكومة العام 2011) إرادته الأحادية على سائر اللاعبين اللبنانيين.

 

بيروت ونهايات دورها العربي كما نهض لعقود

بكل هذا، لم يبقَ من التوافقية التي افترض بعض مؤسسيها الفرنسيين واللبنانيين أنها السبيل الأفضل لحفظ كيانِ أقلّياتٍ دينية عسير الولادة وصعب القيادة سوى واجهةٍ وآليات دستورية تُستخدم للتعطيل وفرض الاتفاقات حيناً، أو يجري تجاوزها بفائض قوة لم يعد يحتاج لشكليّاتها حيناً آخر. 

في المقابل، لم ينشأ نتيجة أفول التوافقية أفق سياسي بديل أو مشروع تغييري أو إصلاحي محمول من قوى لبنانية قادرة على الكفاح لفرضه أو لفرض بعض بنوده على السلطة وحماتها، منذ هزيمة مشروع اليسار اللبناني المتحالف مع المقاومة الفلسطينية مع اندلاع الحرب واجتياح النظام السوري للبلد ثم اجتياح إسرائيل له، رغم محاولاتٍ متعدّدة شهدتها بيروت طيلة التسعينات وأوائل الألفية الثانية. ولم تؤدّ الثورات العربية التي قامت من تونس الى مصر فليبيا وسوريا والبحرين واليمن العام 2011 الى إحداث صدمة إيجابية أو الى تعديل في موازين القوى السياسي يسمح بطرح بدائل، رغم حملات شعبية من نوع "طلعت ريحتكم" في العام 2015 وتجارب انتخابية نقابية أو محلية مثل "بيروت مدينتي" وغيرها خلال انتخابات العام 2016 البلدية.

في الوقت نفسه، تفاقمت مع اللجوء السوري الى لبنان بعد مجازر النظام الأسدي وحلفائه مظاهرُ عنصريةٍ كان الفلسطينيون والعمّال والعاملات الأجانب ضحاياها في السابق فتوسّعت، وبدا الانحطاط السياسي موازياً لانحطاط سلوكياتٍ في أكثر من منطقة ولتمادٍ في التردّي الاقتصادي المالي الذي أشار اقتصاديون الى قرب تسبّبه بإفلاس نتيجة الإيغال في خيارات الاستدانة وتزايد عجز الموازنة وتفشّي الفساد وتوقّف النموّ وارتفاع معدّلات البطالة.

وظلّ مع كلّ ذلك للفعل الثقافي في بيروت دورٌ، يعوّض أحياناً غياب البديل السياسي فيها. فرغم إقفال صحف ونواد ثقافية ومسارح وصالات معارض وسينما، استمرّت المدينة في احتضان أنشطة إبداعية ولقاءات فكرية وأدبية وحقوقية متنوّعة، واستمرّ للحرّيات العامة والخاصة حيّز لم تقوَ عليه الرقابة الطائفية والأمنية. وذكّر الأمر بحقبات مشابهة شهدتها المدينة، في ظروف سياسية صعبة (ومختلفة)، في مطلع سبعينات القرن الماضي أو في أواسط تسعيناته.  

لكن تراكم الأزمات حاصر الفعل المذكور. فدور بيروت العربي والمتوسّطي الذي وفّر لها على مدى عقود العديد من مقوّمات الرفاه والنموّ والحيوية وجذب الاستثمارات، التي لا تحيا مدينة كوسموبوليتية وتتوسّع من دونها، انحسر تدريجياً نتيجة أحوالها الأمنية المتوتّرة والقلقة بعد العام 2005، ونتيجة سطوة حزب الله على الاجتماع السياسي فيها. وهو انحسر أيضاً نتيجة انتقال المراكز الإعلامية والبحثية والاستشفائية ومعها المعارض والمؤتمرات التي لطالما أقامت فيها الى مدن خليجية (في قطر والإمارات) يبحث حكّامها المتنابذون عن أدوار إقليمية وعن نفوذ يبزّ نفوذ الشقيق السعودي الأكبر وعدوّه الإيراني. كما أن تصاعد الصراعات الدموية في المنطقة وعليها وبروز داعش واستجلاب أنظمةٍ لتدخلات روسية وأميركية ونزوح الآلاف من العاملين (والمستهلكين) في قطاعات الفنون والثقافة عامةً من العراق وسوريا ومصر الى أوروبا حرمها من حيويات كثيرة، زادت محاولات القمع والتدجين الفكري المنبعثة من الثورات العربية المضادة وصانعيها من نقصانها.

وإذا عطفنا على مجمل ما ورد الهجرة الاقتصادية الشبابية من بيروت، خاصة بعد العام 2015، وتوقّف المساعدات الخارجية لأسباب عقابية سياسية أو لاشتراطات إصلاحات لم تحصل أو لانخفاض في أسعار النفط وعائداته، وتراجع التحويلات بالعملة الصعبة واستمرار السرقات والهدر وسياسات الهندسات المالية في لحظة هبوط صادرات وتهريب أموال، لوقفنا على أسباب الانهيار الاقتصادي المروّع العام 2019 الذي أطاح بالكثير من ودائع الناس المصرفية وقدراتهم الشرائية وجعل أيامّهم كوابيس، على الرغم من محاولات جيل بيروتي ولبناني جديد التصدّي للأمر وإطلاق انتفاضة حاصرتها الظروف لاحقاً (كما حاصرت مثيلاتها في العراق والسودان والجزائر)...

في الخلاصة، عمّم انفجار مرفأ بيروت ورئة لبنان الاقتصادية الأساسية وصِلته الأولى بالعالم المتوسطي (وواحد من أبرز موانئ المشرق منذ نكبة فلسطين ومرفأ حيفا) الإحساس بالموت لبنانياً، وجعله واقعاً وحشياً تجسّده الدماء وأشلاء الأرصفة والمباني المتداعية مثل الدولة نفسها وأجهزتها التي نهشها الفاسدون المتحكّمون بها.

ولا يطوي الانفجار بهذا المعنى صفحةً في حياة المدينة والبلد فحسب، بل يدفنها كذلك تحت ركام لا سبيل لإزاحته إلا باستئناف الانتفاضة وفك الخناق عنها، وبتعديل موازين قوىً يسمح يوماً بولادة أملٍ أو بصيص نورٍ جديد.

زياد ماجد

نصّ منشور في العدد 124 من مجلة الدراسات الفلسطينية، خريف 2020