ثمة بلد صغير قضى نحبه منذ أيّام. بلد تعرّض خلال نصف
قرن من الزمن - هو عمر نصف سكّانه - لِما لا طاقة لقارةٍ بأكملها على احتماله:
حروب أهلية طاحنة، واجتياحات أجنبية واحتلالان طويلان، ودمار وتهجير وهجرة واغتيالات
وانهيارات اقتصادٍ وعُملة، وسطوة نُخبٍ سياسية ومالية من أسوأ ما قد يُبتلى به
مجتمع في العالم.
قاوم معظم ناس البلد الموتَ كثيراً قبل ذلك. وعبّروا عن
مقاوماتهم بطرق مختلفة. بعضها شجاع كريم، وبعضها مُتحايل ومراوغ، وبعضها الآخر مكتفٍ
بعدم تصديق احتمالات الموت نفسه.
غير أن الموت حصل في النهاية ومحا الفوارق بين مقاوميه ورواياتهم،
وأطاح بمخيّلاتهم وادّعاءاتهم. فما الذي يبقى لهم اليومَ بعد موت بلدهم كما عرفوه؟
هل يبقى النظام السياسي وصيغته وكيانه؟
يصعب ذلك. ففلسفة النظام التوافقية التي حكمت طويلاً،
ترنّحت خلال سنوات الحرب وما تلاها من هيمنة مخابراتية سورية وانعقاد لواء
قيادة الطوائف الواحدة تلو الأخرى على قوّة وحيدة أو قوّتين جعلت كل مرونة أو
إصلاح شديدي الصعوبة والتعقيد لاصطدامهما باصطفافات صمّاء يدعم كلّ منها طرفٌ
خارجي. والفلسفة إياها أصبحت ملاذاً للتعطيل ولتقاسم المكاسب وتناهب الدولة بعد
العام 2005. وصيغة ما سُمّي "عيشاً مشتركاً" لم يعد بمقدورها هضم التصدّعات
في ظل سلاح حزب الله وفائض قوّته وارتباطه العضوي بإيران من ناحية، وضعف سائر
الأطراف وتموضعهم مع الحزب أو ضدّه بلا أفق سياسي أو طموح يتخطّى تقاسم غنائم
السلطة أو البحث عن عون خارجي يلجم حلف الحزب من ناحية ثانية. أما الكيان، فصار عرضة
لتهديدات وجودية لم يسبق أن عانى مثلها منذ قيامه تحت مسمّى لبنان الكبير قبل قرن،
في مرحلة تتبدّل فيها الخرائط الديموغرافية في المشرق بأسره نتيجة الحروب الداخلية
وعنف الأنظمة الضاري وتفكّك النسائج الاجتماعية والتدخّلات الخارجية والاحتلال
الاسرائيلي.
هل يبقى مستوى العيش والاستهلاك والاستشفاء والتعليم
الخاص، بمعزل عن أحوال السياسة المركزية وسلطتها؟
يستحيل ذلك، فلبنان الرفاه والقدرة الشرائية والخدمات والعيش
بمستوياتِ إنفاقٍ وتنوّعِ اختياراتٍ واستيرادٍ يتخطّى نسبة الـ80 في المئة من
مُجمل ما يستهلكه ولّى الى غير رجعة في المستقبلين القريب والمتوسّط، في ما خلا
استثناءات مخصّصة لأثرياء وزائرين ومهاجرين. وتقديم الطبابة والاستشفاء والاعتماد على
سعة الطبقتين الثرية والمتوسّطة وعلى شبكات الزبائنية أو صناديق الطوائف لتأمين
استمراريّتهما بأحدث وأغلى آلات موجودة لن ينجو بدوره من أثر الكارثة المالية
والاقتصادية الحاصلة، مثلُه مثل التعليم الخاص الباهظ الكلفة. والأهم، أن شروط
صندوق النقد الدولي أو أي طرف آخر قد يأتي بمساعدات ستفرض خيارات قاسية تأخذ بعين
الاعتبار حجم اقتصاد البلد الفعلي وإنتاجيته ومداخيله وطبيعة أسواقه ومصارفه
وقدراته على تسديد الديون وفوائدها، ثم تقرّر في سبل التعامل مع ذلك، بعيداً عن
أحوال الماضي المتضخّمة من جهة وعن مصالح الناس المحدودي الدخل والمتوسّطيه من جهة
ثانية. أما المسؤولون الذين تناهبوا الدولة على مدى عقود، فسيصعب عليهم الاستمرار بالتناهب
ذاته، ومن سينجو منهم من موت البلد الذي تسبّبوا به، سيدير أمواله المهرّبة الى
الخارج أو "المستعادة" في الداخل لتدبّر أمر استمراره في نادي المقرّرين
(ما لم تُطح به محاسبة قانونية يفرضها تغيير سياسي جذري هو التحدي الفعلي المقبل).
هل بمقدور الناس إعادة إحياء ما مات، وهم لطالما اعتنقوا
فعل النجاة رغم انتكاسات دولتهم؟
لا يبدو الأمر ممكناً هذه المرّة. فالحجم المالي
للانهيار لم يسبق أن وقع مثله في السابق. وفعل النجاة لم يعُد شأناً يُتيحه ظرف أو
دعمٌ خارجي مرحليّ أو تكيّف يُمكّن الناجين من الاستمرار ثم النهوض من جديد. وترداد
مقولات من نوع "لبنان الحقيقي باقٍ" و"الزمن الجميل سيُستعاد"
و"طائر الفينيق سيعاود الانبعاث" ليست حتى فولكلوراً مغنّىً يثير
تبسّماً أو حنيناً. فلا لبنان الحقيقي أصلاً يُختزل بمهرجان أو بنشاط أو بموسيقى، ولا
هو تجميع أشخاص وأعمال واعتبارها الوجه الأصيل. والزمن الجميل للبعض ومثله طائر
الفينيق ليسا أكثر من زمن مذموم للبعض الآخر أو أسطورة سمجة آن الأون لأسطوانتها
أن تتوقّف.
والحق أن أصدق ما يعبّر عن لبنان الحقيقي وعن أزمانه
الجميلة والدميمة هو ما يعيشه ناسه منذ أكثر من خمسين عاماً: تجاور وتعايش يوميّ
بين الفساد والنفايات والسرطانات والولاءات الخارجية والسلاح والفجور والعنصرية ضد
اللاجئين واستغلال العمالة الأجنبية والذكورية والتمييز الطائفي، والإبداع والحرية
والتعليم والحيوية الثقافية وتعدّد المبادرات المدنية والمعارض والمقاهي والحانات
والمهرجانات الفنية... غير أن التجاور وتعايشه تداعيا، وابتلع الفساد وأسياده
معالم حياة البلد في طورها المنصرم.
ثمة بلد صغير مات إذن، بما كان عليه من محاسن ومثالب.
وثمة زوايا في قلوبنا انطفأت بموته.
وما يمكن فعله بعد الموت المُعلن هذا هو البدء بتخيّل
بلد جديد، لبنان آخر، يحمل في جيناته بعض خصائص سلفه وتناقضاتها، وبعض خصائص بلدان
أُخرى عرفت موتاً شبيهاً بموته طوى مراحل من تاريخها، فتغيّرت من بعده؛ لبنان يحمل
أيضاً سمات من حاول إنقاذه على مدى أشهر بعد 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، قبل أن
تصرع آماله ثورة مضادة وعنف ميليشيات وأجهزة أمن وإدارات مصارف وأوهام طوائف.
زياد ماجد
مقال منشور في ملحق القدس العربي