لا معنى للحديث عن مدينةٍ من دون الحديث عن العيش فيها وعن حركتها وتبدّل أحوالها وعن الحرية والحب والخوف والتنقّل والولادة والموت فيها. ولا معنى للحديث عن مدينة دون تذكّر ضجيجها وروائحها وألوانها ونور شمسها وزخّات المطر في شوارعها.
والأهم ربما، لا معنى لهكذا حديث إن جاء خالياً من ذكر صُحفها ومقاهيها وحاناتها وجامعاتها وأسواقها وباعتها الجوّالين وعمّال البناء والنظافة والحمّالين الحاضرين دوماً في زواياها.
فكيف إذا كانت المدينة المعنية بالحديث هي بيروت، بناسها – لبنانيين وأجانب ولاجئين سوريين وفلسطينيين وسودانيين – وبتاريخها الحديث الذي نشأنا في ثنايا أحداثه وتحوّلاته الصاخبة! وكيف إذا كانت عاصمة لبلد مرّ عليه في نصف قرن ما لم يمرّ على أي بلد آخر، كثافةً وقسوة ودموعاً أو بهاءً وغنىً وفرحا.
بيروت بهذا المعنى هي من أكثر المدن التي يصعب لمن لم يشهد أو يشارك من داخل بيوتها وشوارعها تتابع حقبات تاريخها أن يفهم سبب التعلّق الفظيع بها. فلا عمرانها وما تعرّض له من تشويه، ولا بحرها الملوّث، ولا الازدحام في طرقاتها ولا انقطاعات الكهرباء والمياه فيها، ولا انعدام المساحات الخضراء وندرة المتاحف في أرجائها، ولا التعدّي على الأملاك العامة والتهميش الظالم لبعض أحيائها ومخيماتها وضواحيها تبرّر التعلّق المذكور أو تشي بأن لهذه المدينة روحاً وذاكرة لا تتيحان لمن يلامسهما حياداً أو قلة اكتراث يوماً تجاهها.
ففي بيروت عشنا منذ مطلع السبعينات ما قد يعيشه ناس آخرون في قرون. عشنا الأنوار ومقاعد الدراسة والعطل الصيفية والأحلام العادية والتغييرية، ثم عشنا اندلاع الحرب الأهلية وقيام خطوط التماس والمعابر وحواجز الخطف والقنص والقذائف والتهجير من حيّ الى آخر. وعشنا الحصار الإسرائيلي وقصف الطيران الحربي والعتمة والعطش والحرائق والمعارك الطاحنة. وعشنا فسح الهدوء الحذر ثم تجدّد جولات الحرب التي لم تُقفل رغم عنفها وتَبدّل بعض أمرائها مدارسنا وجامعاتنا ومطاعمنا ولم تُسكت أغانينا. وعشنا تنوّع الصحف والإذاعات والمنابر والأهواء، ثم عشنا نهاية الحرب وحقبة إعادة الإعمار بفضائلها ومثالبها وبسرعتها المدهشة وفسادها. وعشنا الهيمنة المخابراتية السورية وفجور مخلّفاتها اللبنانية، ولم يخفض كثرٌ منّا مع ذلك أصواتهم في مقهى أو في مقال ولم ينحنوا لمخبر تافه أو لسياسي رقيع. ثم شهدنا حملات شعبية تطالب بالإصلاحات وبالتغيير وبتحرير البلد، وحضرنا ندوات ومؤتمرات لم يهدأ الحكي فيها ومن بعدها ولم يلن لشاباتها وشبابها موقف. وبنينا صداقات وآمالاً وأوهاماً بعثرت بعضها خلافاتٌ لاحقة وعمّقت بعضَها الآخر مشاريعُ عمل وأحزابٌ أو نقاشات ونميمة وضحكات في سهرات لا تنتهي.
وعشنا اغتيالات وفقدنا أحبة واختبأ بعضنا في بيوت الأصحاب وأصحابهم، وصار لنا في شوارع كثيرة لم نعرفها جيداً من قبل ذكرياتٌ يصعب تصنيفها أو حصرها في خانة تقييم محدّد. لكننا عشنا في الفترة ذاتها أيضاً انتفاضات ومظاهرات ومواجهات، وحرباً خاطفة جديدة، وعداوات وغضباً وغيظاً وقرفاً، لم تنل جميعها من المعارض والكتب ومن فناجين القهوة وأمسيات الموسيقى وبيانات التضامن وحملاته مع مظلومات هنا ومهمّشين هناك.
لكن تراكم الصعوبات وتفشّي الفساد وضحالة "المسؤولين" حاصرت مع الوقت بيروت ودفعتها تدريجياً نحو حافة الانهيار. صار كلّ منا يلمس الخطر ويراه، مقيماً كان أو زائراً دورياً. الخدمات المدينية جميعها تراجعت. بعض الأمكنة التي صاغت جزءاً من علاقتنا بالمدينة انطفأت. مؤسسات ومحال أقفلت أبوابها. كثرة من الصديقات والأصدقاء البيروتيين أو اللاجئين الى المدينة من الجحيم السوري والصانعين جوانب من فرادتها غادروها. نفايات الطبقة السياسية الحاكمة وحزبها المدجّج بالسلاح تراكمت في الساحات أو فوق موج البحر الذي سرق اللصوصُ أجمل شواطئه. بدت بيروت مقبلة فعلاً على الاختناق، وبدا ناسها غير قادرين على وقف الانحدار المصيب تكراراً حيواتهم فيها، يُقيمون من الأسى مقارنات غير مجدية بين حاضر سُدّ أفقُه، وماضي تجارب حرب نجوا منها ولم ينجوا من أشباحها.
ثم جاءت انتفاضة تشرين/أكتوبر 2019. ظهرت كترياق، وحاولت لجم الانحدار ومقارعة الأوغاد. غير أن الأخيرين تكاثروا عليها، ميليشيات مذهبية وشبكات زبائنية وعسكراً وعصابات مصارف. دخلت بيروت في مرحلة جديدة تُسرق فيها أموال أهلها وجنى أعمارهم، ويترنّح فيها اقتصاد ونموذج عيش ونمط علاقات لن يقوم في البلد من جديد ما يشبهها أو ما يماثل ما عرفناه منها في حياتنا السابقة. ولم يأت الانفجار المروّع قبل أيام في مرفأ بيروت، رئة المدينة الاقتصادية التاريخية، سوى ليترجم هول مصاب المدينة، وليجسّد ضراوة ما تتعرّض له البلاد بأسرها في قلب عاصمتها من انتهاك وعدوان ورغبات ابتلاع.
قد لا تتعافى بيروت بعد مُصابها الأخير. أو قد يتطلّب الأمر هذه المرّة وقتاً طويلاً لن يكفي ما تبقى من أعمار العديد من سكّانها اليوم أو ممّن تسكنهم روحها وهم خارجها لحدوثه. لكن هذا لا يغيّر في العلاقة بها. فالعلاقة هذه شأن لا تكفي التعريفات العقلانية للإحاطة به ولا تفي وصفَه المشاعرُ والعواطف والمصالح وآثار الذكريات.
لذلك، ستبقى بيروت قبلتنا، وستبقى كتابنا وجامعتنا ومقهى كسلنا وكورنيش بحرنا ومرقد أحبابنا في نومهم الأبدي. وسيبقى لابتسامة البنات الصغيرات فيها بأسنانهنّ الناقصة وبفساتينهنّ الملوّنة المحتفية بعيدٍ، ولدافعي عربات الفول والعرانيس والكعك في متنزّه بحرها، وللأكتاف الطريّة المنحنية تحت ثقل الحقائب المدرسية مطلع كل خريف، حين تفوح من الأرض رائحة المطر الأّول، ما سيدفعنا في ما تبقّى من أيامنا للسعي لتحريرها من الأنذال، ولاستئناف العيش يوماً فيها...
زياد ماجد
مقال منشور في ملحق القدس العربي