حجبت نيران الحريق الرهيب الذي أصاب كنيسة نوتردام وما
رافقها من مشاعر حزن على معلمٍ من أشهر معالم باريس العمرانية، مرتبطٍ بأدبها وتاريخها
وما انصهر فيه من عناصر ومكوّنات ثقافية متنوّعة، الكثير من القضايا الأخلاقية
والسياسية المتّصلة برمزّيته من جهة، وبما تلاه من سجالات فرنسية وتبرّعات قام بها
أفراد ومؤسسات يملكون شركات ورساميل ضخمة من جهة ثانية.
حريق الصرح والحريق في الكنيسة الكاثوليكية
شبّه مراقبون حريق المبنى وأضراره بالحريق الذي يضرب منذ
سنوات منظومة الكثلكة أو بالأحرى مؤسّساتها الكبرى في فرنسا وأوروبا.
فالكنيسة الكاثوليكية تعاني منذ مدّة مجموعة أزمات لم
تعرف لها مثيلاً، مصرَّحاً به على الأقل، من قبل.
فمِن تراجع أعداد أتباعها وتحوّل مبانيها الى مواقع
سياحية وتراثية أكثر منها دينية، الى تصادم مفاهيمها المحافِظة بالتشريعات
والقوانين الوضعية الحديثة الرافضة لكل سطوة لها على الفضاء العام، الى فضائح
الاعتداءات الجنسية على الأطفال واغتصاب القاصرين في صروحها وما فيها من دعاوى قضائية
يرفعها ضحايا وشهادات تتسبّب كل حين بطردٍ أو بمناقلةٍ تصيب رهباناً ومسؤولين
كنسيّين دفعت البابا نفسه الى التصريح بضرورة محاربة جرائم
"البيدوفيليا" المستشرية فيها، وصولاً الى السجالات الداخلية
الفاتيكانية وما يتسرّب منها من قضايا خِلافية حول "إصلاحية" البابا
وأولويّاته وحول ما يُنسب إليه من مواقف تقدّمية، تتهاوى مؤسّسة الكثلكة، ومثلها
الكثير من المؤسسات الدينية وغير الدينية المتقادمة، ويبدو حريق نوتردام حريقاً
تتخطّى حدوده أبراج الكنيسة العظيمة لتطال منظومة متراجعةً بأكملها.
التغطية الإعلامية للحريق والتعامل السياسي معه
على أن الأهمّ من ذلك ربما، هو التعامل السياسي الذي
أبرزته المواكبة الإعلامية المرئية والمسموعة للحريق العظيم، خاصة في الأوساط
اليمينية الفرنسية (والأوروبية عامة)، التي وجدت في الحريق مناسبة للتذكير بجذور
فرنسا (وأوروبا) المسيحية وبصفاء تلك الجذور. والتذكير هذا، في ما خلا كونه
نوستالجيا لتاريخ لن يُبعث من جديد، إشارة الى رفض (يائس) لما صارته فرنسا وسائر
الدول التي صنعت ثقافاتِها المعاصرة مجموعةُ مكوّنات مختلفة الهويات والديانات،
دخلت على السياق الأوروبي إثر سياساته الاستعمارية، ثم بسبب الهجرات إليه وما
أحدثته من تحوّلات ديموغرافية، وأخيراً نتيجة العولمة وسياقاتها. وهو، أي هذا
التذكير، الذي وجد في الحالة العاطفية التي أحدثتها نيران الكنيسة وبعض أطرافها المتفحّمة
مناسبة ليعبّر عن نفسه، يهدف في ما يتخطّى الحدث ذاته وتداعياته الى الدعوة للفظ
كلّ ما أضيف الى الحضارة الفرنسية (والغربية) منذ نهاية حقبة تسيّد الكنيسة تلك
ورمزيّة زمانها. التعدّد هو بذلك مستهدف، والاختلاف الديني والعرقي الذي يصنع
الهوية الفرنسية اليوم أيضاً مستهدف، وبنيان القيِم الاجتماعية الحديث بدوره
مستهدف. والمؤلم بالنسبة لأصحاب المواقف المذكورة هو أنهم يدركون أن ما يتمنّونه
من "صفاء" احترق منذ زمن غير قصير، والتهمته نيران أشدّ قسوة عليهم من
نيران نوتردام، ولم يبق منه سوى أوهام وأحقاد عنصرية.
في أخلاق الرأسمالية
حسناً فعل الرئيس إيمانويل ماكرون، بوصفه رأس الدولة
العلمانية الفرنسية، بالاكتفاء بإشارات الى المسائل الثقافية والسياحية والتقنية
في يخصّ مُصاب نوتردام ووعود إعادة بنائها. لكن الدعوات للتبرّع التي تلت خطابه
شهدت فضائح واستغلالاً، هي بالتحديد أخلاق الرأسمالية بطورها الراهن.
فكثرة من المتبرّعين الكبار لإصلاح ما تضرّر وإعادة بناء
ما تخرّب في جدران الكنيسة وأبراجها إنما فعلوا الأمر تخفيضاً لضرائبهم، التي
آثروا التهرّب منها على هذا النحو فيبدون أصحاب مكارم وأفضال، تُسجَّل أسماؤهم
كبناة لمعلم باريسي تضرّر، عوض ظهورهم بالمظهر الحقيقي، البخيل والأناني (وحتى
اللصوصي) الذي يصاحب عادةً المتهرّبين من الضرائب. ذلك أن كل تبرّع لـ"منفعة
عامة" أو "خير عام" أو "تراث ثقافي مهدّد" يُعفي
القائمين به في فرنسا (وفي معظم أوروبا) من نسب معتبرة من الضرائب على الدخل أو
على الأرباح السنوية. وإذا عرفنا أن بعض التبرّعات لبناء الكنسية فاقت مئات
الملايين من الدولارات، عرفنا أيضاً أن موازنات الدولة الاجتماعية المخصّصة
للتعليم والصحة ودعم المعدومين مثلاً قد تكون بدورها خسرت مئات الملايين.
واستنكرت عدة مؤسسات خيرية وتنموية فرنسية معروفة
(وبعضها ذو خلفية دينية مسيحية)، تهتمّ بالمشرّدين أو اللاجئين أو الأطفال
المعنّفين أو الفقراء ومحدودي الدخل، حجم هذه التبرّعات التي مُنحت
بـ"كرم" لإعادة ترميم مبنى، في حين لا يُقدّم ما يُساوي عُشرها للمؤسسات
أو المبادرات المعنية بمئات آلاف الفرنسيين والفرنسيّات (والقاطنين في فرنسا) المُحتاجين.
غير أن أخلاق المعنيّين بالتبرّعات والإعفاءات الضريبية
لا تأبه بمثل هذه الاستنكارات. فهي ترى في تقليص المساهمة بتمويل مؤسسات الدولة مقابل
حفر أسماء أصحابها في سجل المساهمين في إعادة بناء معلم يزوره سنوياً ملايين السيّاح
ما يوفّر لهم دعاية مجّانية قد يستثمرون فيها يوماً ويجنون أرباحاً تفوق ما سبق أن
تبرّعوا به، ووفّروا على أنفسهم في أي حال ضريبياً. وهذا يحيلنا الى جانب من جوانب
الأخلاق الفعلية للرأسمالية اليوم، التي لا شكّ أن نيرانها أكثر فتكاً وعدوانية
تجاه مئات ملايين البشر من معظم الحرائق التي نشهد، في نوتردام وفي سواها.
هكذا، ظهّر حريق مأساوي أصاب مبنى باهراً في عاصمة فرنسا
مجموعة قضايا يستحقّ كلّ منها بحثاً مستفيضاً لن تنتهي صلاحيته مع إعادة بناء ما
احترق، ولن تختفي آثاره كما اختفت بعض آثار الألوان على الجدران الكنسية. فالصراع
على الهويات وعلى الأخلاق والتحسّر على الماضي يبدو نزعةً لن تمّحي في المستقبل
القريب...
الملحق الأسبوعي للقدس العربي