سنوات طويلة من السجن والعبودية الجنسية والعنف الضاري والإجهاض للنساء المُستعبدات
والمُغتصبات في أقبية "شي موريس" و"سيلفر"، وفي عيادة "طبّية"،
جرى الكشف عنها قبل أيّام في لبنان. وحسابات مصرفية وشركات وهمية وواجهات لمسؤولين
حكوميين ورياضيّين ومجرمي حرب ورجال أعمال من عشرات الدول يجمعهم الكسب غير
المشروع والتمنّع عن دفع الضرائب وتهريب الثروات عبر بنما، يجري حالياً نشر
تفاصيلها تباعاً في أكبر جهد تحقيقي يشهده تاريخ الصحافة تحت مسمّى "أوراق
بنما".
هكذا يُستهلّ شهر نيسان بتذكيرنا
بالوحشية المقيمة في لبنان، وبتواطئ سياسيّين وأمنيّين مع عصابة من الخاطفين لنساء
سوريّات، المعذّبين إياهن ضرباً وتأجيراً لزبائن ثم تعريضاً لعمليات الإجهاض على
يد طبيب شريك للعصابة (وممرّضته). وهكذا أيضاً، يُستهلّ هذا الشهر بنشر صحفٍ ملايينَ
الوثائق حول أخلاق الآلاف من أصحاب الثروات الطائلة عالمياً، ومن بينهم بعض
الشديدي الشبه بأوغاد العصابة اللبنانية، النافذين في أكثر من بلد والمدّعين في
أحيان كثيرة نزاهةً واستقامة وتفوّقاً عنصرياً.
وإذا تذكّرنا أن حجم اقتصاد شبكات العبودية
الجنسية وأنشطة الدعارة، من آسيا الى إفريقيا ومن الأميركيّتين الى أوروبا
فأوقيانيا، يبلغ في أقلّ تقدير 186 مليار دولار سنوياً (بحسب إحصائيات
"هافوكسكوب")، وأن بين المليارات هذه ما يذهب الى مافيات خطف واغتصاب
عابرة للحدود، وقفنا على حجم عالمية الظاهرة اللبنانية المُعلن عنها مؤخّراً
وارتباطها بمنظومة علاقات استغلال تقوم على سحق القوي للضعفاء، النساء المُختطَفات
والمُنتهَكات في هذه الحالة، ثمّ - ولِمَ لا - إيداع بعض مداخيل عمليات السحق هذه
في حسابات لشركات وهمية في مصارف الجنّات الضريبية الكثيرة.
قد يُقال إن ليس في الأمر جِدّة. فلا
الاستغلال الجنسي والعبودية طارئان، ولا فضائح حسابات بنما حديثة العهد، ولا تهرّب
نجوم فنّيين أو رياضيّين ومعهم بعض السياسيين من دول ديمقراطية أو من أنظمة ديكتاتورية
من تسديد ضرائب أو تدقيق حسابات مثار دهشة. فالجشع والفساد لا حدود أو مواطن لهما،
وثمة مثالب متأتّية عنهما في معظم مجتمعات العالم. وهذا بالطبع صحيح.
وقد يُقال أيضاً إن "العالم"
القابل منذ عقود بمظالم هنا وهناك، والمتعامل مع أنظمة يقودها مجرمون أو فاسدون،
والصامت في زمن النقل الإعلامي المباشر عن المجازر والقتل، والمستعدّ لنقل لاجئين
وفارّين من الموت بالبواخر والشاحنات لمنعهم من دخول بعض بلدانه، والداعي شعوباً
ثائرة على القمع للقبول بقامعيها، والتارك أطفالاً يموتون لنقص
"الأسبيرين"، هو "عالم" من البديهي أن تستمرّ فيه عبودية نساء
فقيرات أو تعدّي أقوياء على قوانين وتبييضهم أموالاً. وهذا بدوره صحيح.
لكن ما هو صحيح أيضاً أننا في نفس "العالم"
هذا، نجد أبهى القيم الإنسانية وألمع الانجازات العلمية والمعرفية، ونجد رجالاً
ونساءً لم يستسلموا للمظالم أو يصمتوا حين لم تمسّهم مباشرةً. بعضهم يثير اليوم ما
تعرّضت له النساء السوريّات، وبعضهم الآخر عمل على مدى أشهر ليُثير فضيحة
"أوراق بنما" وليكشف فاسدين بالأرقام والوثائق سعياً لردعهم.
كراهية "العالم" والعدمية
تجاهه ليستا إذاً الردّ على جوانب انحطاطه المتضخّمة، ولو أنهما في عنفهما تشبهانها
وتستمدانّ بعض المشروعية منها. التمسّك بالحياة والدفاع عن حقوق ناسها هما الردّ
الأمضى والأكثر شجاعة، من جونية وضهر البيدر الى دمشق، ومن هناك حتى بنما وجزر
الكاريبي...
زياد ماجد