Friday, April 1, 2016

محاصرٌ مثلي

تروي السينمائية السورية هالة العبد الله في فيلمِها الجديد "محاصرٌ مثلي" جوانبَ من سيرة المثّقف السوري المعارِض فاروق مردم بك المقيم في باريس والممنوع من العودة الى بلدِه منذ العام 1976، تاريخ توقيعه كما العديد من أصدقائه بيانَهم الشهير المُعارض لاجتياح جيش الأسد لبنان.
على أن رواية العبد الله تأتي غالباً على لسان مردم بك نفسه، بتواطؤ جميل بين الكاميرا والسرد، أو بتتبّعٍ لحركةٍ ولحواراتٍ ولعملٍ يشاركُه فيها أصدقاؤه، أو أحبّةٌ يستحضرهم لغيابهم عن باريس أو لرحيلهم المأساوي عن دنيانا.
 
تبني العبد الله فيلمها حول مائدة فاروق والتحضير المتأنّي لها. مائدةٌ تُظهّر ثقافة الرجل المطبخية، إذ تقدّم لغير عارفيه علاقته بالطبخ وتحوّلها خلال المنفى الى رابطٍ وجداني بدمشق والى لحظات لقاءات باريسية حميمة. ومائدة فاروق بهذا المعنى هي ذكريات شامية وحاضر باريسي، وهي هوىً بالمأكل وحديثٌ عن تاريخه وعمّا تُثيره مكوّناته من ارتباط بأمكنة وأزمنة. وهي بعد ذلك التئامٌ لصحبٍ انتقاهم "الطبّاخ" ليكونوا عرضةً لكاميرا العبد الله ورفقةً في التذوّق والتحاور، وهم في الأصل شركاؤه (وشركاؤها) في المنفى القسري أو الطوعي وفي العلاقة بالشأن السوري وقبله الفلسطيني، وفي عيش "الحصار" الذي اتّخذه الفيلم عنواناً، استيحاءً من قصيدة محمود درويش "في الشام".

لكن للفيلم بُنية موازية تكمّل التحلّق حول المائدة وأحاديثها، ترافق فيها هالة فاروقاً الى المكتب والقطار والمسرح والقراءات الشعرية والموسيقى، أو تحاوره وتترك له أن يتحدّث عن اكتشافه سوريّته بعد اندلاع الثورة العام 2011، وعن أبرز محطّاته الباريسية، وعن القضية الفلسطينية التي كرّس لها سنوات طويلة من عمله، وعن محمود درويش وعن سمير قصير والجرح الذي خلّفه اغتياله، وعن اليسار والانتماء العربي وعن حبّ فرنسا وثقافتها ولغتها.


هكذا تبني هالة العبد الله فيلمها بما يجعله "ثلاثيّ الأبعاد": يحتلّ وجه فاروق وما ترسمه شخصيّته وكلماتُه البعد الأول، وتحتلّ سوريا وقضيتها وعلاقة أكثر من جيلٍ بها البعد الثاني، ثم تأتي الصداقات والصِلات الإنسانية والالتزامات السياسية والأخلاقية وفلسطين وفرنسا لتشكّل البعد الثالث. وهكذا يصبح الفيلم تسجيلاً هو بمثابة الشهادة والتحية لشخصٍ ولتجربة بذاتها، وروايةً تمسّ الإنساني لدى أي مشاهد بمعزل عن الجغرافيا ولغة الكلام الأولى.

"محاصرٌ مثلي" سيرة سوريّة (وفلسطينية) باريسية إذن. وجوه سوريّين فيه وابتساماتهم وتطلّعاتهم مرئية ثاقبة بما لا يسمح لسفهاء أو لمحاصِرين أو لإعلاميّي الإثارة باستبدالها بوجوهٍ أُخرى تلائم سرديّاتهم المزوِّرة. جرعة الحنان في الفيلم عالية، تشبه المخرجة وبطلها، وتشبه الرابطة القوية التي تنمو بين أناس تتقاطع مسالكهم وتجمعهم تلك الرغبة العارمة في مقارعة الحصار. 
و"محاصرٌ مثلي" هو سيرة لما قبل العودة، أو هو تمسّكٌ بحقّ العودة، تلك التي ستحمل فاروقاً وصحبَه السوريين يوماً ليعبروا "النفق الطويل ويوقدوا شمعةً، وينفضوا الغبار".
زياد ماجد