استضافت
بيروت في السنوات الثلاث الماضية المئات من الكتّاب والفنّانين والناشطين
المعارضين السوريّين والفلسطينيّين-السوريّين. ملأ هؤلاء جزءاً من مقاهيها ومسارحها ونواديها الثقافية، وساهموا
في صفحات الرأي والملاحق الأدبية لجرائدها ومواقع الأخبار الإلكترونية فيها، كما
أسّسوا هيئات وجمعيات وأطلقوا مبادرات منها نحو وطنهم أو نحو اللاجئين خارجه من
أبنائه وبناته. وصار يصعب تخيّل المدينة ونتاجها وحيويّتها من دونهم، تماماً كما
صار يتوجّب للقائهم أو التواصل معهم زيارتها.
غير
أنّ بعض السوريّين والفلسطينيين هؤلاء لم يستطيعوا البقاء في بيروت. ربّما ظنّوا
حين وفدوها أن أشهراً معدودةً كانت تفصلهم عن الانتقال منها إياباً الى سوريا.
وربما لم يروا فيها ملاذهم لأمد طويل لأسباب مرتبطة بظروف العيش والاستهلاك فيها. وربّما
أرادوها مرحلةً انتقالية بين دمشق وأوروبا، تحضّرهم ببطء للابتعاد الجغرافي عن
بلدهم. وفي جميع الأحوال، فإن مجموعة عوامل ساعدتهم على اتّخاذ قرار مغادرتها: مشاكل الإقامات وآليّات تجديدها
التي عمدت السلطات اللبنانية تدريجياً الى تصعيبها، الخشية من انتهاء صلاحية
جوازات سفرهم وانتفاء القدرة (والرغبة) لديهم على الاستحصال على بدائلها من سفارة
النظام الأسدي، التدهور المريع للأحوال السورية بما لا يترك مجالاً للتفاؤل بقرب
الوصول الى حلّ، والبحث عن أوضاع أفضل للأطفال – في الحالات العائلية - بعيداً عن
كلّ ما يشي بعنصرية أو تمييز يمكن أن يتعرّضوا له في لبنان.
هكذا رحل
هؤلاء، فابتعدوا أكثر عن سوريا، وعن احتمال الرجوع القريب إليها. وهكذا أيضاً
تركوا فراغاً في بيروت بين أصدقائهم-مواطنيهم الذين نزحوا معهم إليها، وبين
اللبنانيّين ممّن صادقوهم أو استقبلوا كتاباتهم ومشاريعهم ونشطوا معهم أو عاونوهم.
والفراغ
هذا كان ليسهل التعامل معه لو صاحَبه عند مودّعيهم شعورٌ
باحتمال لقائهم في المدى المنظور في سوريا أو حتى في بيروت. لكن الأمر ليس كذلك.
فترحالهم يبدو هذه المرّة بدايةً جديدةً لهم في أمكنة بعيدة، قد تكون أفضل لهم،
لكنها حكماً على مسافة جغرافية وزمنية غير قصيرة مع ما خلّفوا وراءهم.
لهذا
السبب، لا نعرف كلَّ ما بلغنا أن واحدةً أو واحداً من الأصدقاء السوريّين قد غادر
بيروت، إن كان الخبر مفرِحاً أو مُحزناً. فخلاص هؤلاء الفرديّ ضرورةٌ إنسانية اليوم. وهو ضرورةٌ للخلاص السوري أيضاً،
يوماً ما. لكن بيروت من بعدهم ستكون أقلّ غنىً، وزيارتها لن تحمل احتمالات اللقاء
بهم واكتشاف بعض جوانبها من خلال خياراتهم وانحيازاتهم المكانية فيها...
يبقى
لنا أن نتمنّى لمن غادروا توفيقاً، ولمن ظلّوا بيارتةً قدرةً أوسع على تحمّل أعباء "المؤقّت"، ولَو استمرّ
في التمديد لنفسه أو جعلهم يحترفون الإنتظار.
زياد ماجد