نجحت العملية الإرهابية
التي استهدفت مجلّة "شارلي إبدو" الساخرة في اغتيال أربعةٍ من كوادرها
الأسبوع الماضي في باريس، لكنّها منحت المجلة حياةً جديدة.
فـ"شارلي
إبدو"، التي يعدّها كثرٌ نشرةً ذات مضمونٍ سطحي، والتي تصدر أسبوعياً وِفق
القوانين الفرنسية المُبيحة تناول القضايا السياسية والاجتماعية والإيديولوجية
والدينية نقداً وهجاءً وسخريةً لاذعة، كانت تبيع عشّية الجريمة التي استهدفت هيئة
تحريرها حوالي 35 ألف نسخة، بعد أن كان معدّل مبيعاتها قبل خمس سنوات 50 ألفاً،
وقبل عشر سنوات 140 ألف نسخة. وكانت تعاني من ديون تدفع إدارة تحريرها لمناشدة
قُرّائها وأصدقائها دورياً التبرّع والتدخّل لتخفيف أزمتها الحادة.
وكانت فوق ذلك، تعجز منذ
مدّة عن تجديد نفسها وإيجاد أسلوبٍ ومواضيع تجذب إليها أنظاراً واهتماماً، خاصة أن
البرامج الإذاعية والتلفزيونية الفرنسية الساخرة تكاثرت ولم تترك لها الكثير من
القضايا لتتعامل معها أو تتفرّد بمقاربتها.
ثم وقعت الجريمة
المروّعة يوم الأربعاء الفائت في 7 كانون الثاني، وقَتل الأَخوان كواشي أربعةً من
أبرز العاملين فيها ثأراً للنبي محمّد (كما زعموا)، وهو الذي نشرت المجلّة مرّتين
رسوماً عنه، في العام 2006 (حين نقلت الرسوم الدانماركية) وفي العام 2011 (وحُرق
مقرّها يومها). والأخوان كواشي، المرتبطان بخلية "الدائرة الباريسية التاسعة
عشر"، أي الخلّية التي ذهب أعضاء منها للقتال في العراق في العام 2005 بعد أن
مرّوا في سوريا، وذهب أعضاء آخرون الى اليمن وتدرّبوا مع "القاعدة" في
فترة لاحقة، وسُجن البعض منهم أو انضمّ إليهم أشخاص بعد قضائهم أحكاماً في السجن
لأسباب مرتبطة بتجارة مخدّرات وجنح مختلفة، هذان الأخوان، نفّذا جريمةً غير مسبوقة
في السياق الفرنسي منذ عقود طويلة. فعمَلهما لم يكن إرهاباً كلاسيكياً يستهدف
مدنيّين أو مرافق حكومية، وإنما استهدف صحافيّين ورسّامين لأسباب مرتبطةٍ حصراً بمضمون
ما يعبّرون عنه، وهو المضمون الذي يُردّ عليه عادةً بالكلمة أو بالرسم المضاد أو
بالدعاوى القانونية. وهذا الاستهداف هو بالتحديد ما أدّى الى ذهول شعبي والى نزولٍ
لملايين الفرنسيّين الى الشوارع على نحو لم تشهده فرنسا منذ تحريرها من الاحتلال
النازي أواخر الحرب العالمية الثانية.
وفي ما يخصّ الجريدة
نفسها التي كانت تحتضر قبل الجريمة، فقد انتهت على الأرجح الآن أزمتها المالية بعد
اشتراك أكثر من 20 ألف شخص فيها وتبرّع الآلاف الآخرين خلال الأيام الخمسة
الأخيرة، وبعد قرارها طبع مليونَي نسخة من عددها الأوّل بعد الجريمة، الصادر غداً
الأربعاء في 14 كانون الثاني، وتوزيع الأعداد في فرنسا (حيث يُتوقّع أن تنفذ نتيجة
الرغبة في شرائها من باب الدعم لاستمرارها) وفي أكثر من بلد في العالم (حيث ستُترجم
الى 16 لغة). وسيكون غلاف العدد الجديد رسماً للنبي محمّد يحمل فيه شعار "أنا
شارلي" كإعلانٍ يهدف الى تبرئة الإسلام من فعل القتَلة وإنما بأسلوب المجلّة
إياه وبإصرار العاملين فيها ممّن نجوا من القتل على رسم من يُريدون وما يُريدون.
هكذا، تكون الجريمة نجحت
فقط في الإطاحة بأفرادٍ وقهر عائلاتهم، في حين أنها أتاحت للمجلّة الانتعاش مادياً
وتأمين قدرة الاستمرار لسنوات وسط عطف شعبي واسع هو نقيض قلّة الاكتراث التي ميّزت
التعاطي العام مع أعدادها قبل السابع من كانون الثاني الماضي. وهكذا أيضاً يكون المجرمون
قد فشلوا في ما أرادوه موضعياً لجهة قتل "شارلي إبدو"، لكنّهم نجحوا في تعميق
التوتّرات الاجتماعية في فرنسا وفي دول أوروبية عدةّ، وفي إثارة نقاشات تتساوى رداءةً
وتبسيطاً بين دُعاة "ملامة الإسلام والمسلمين" (من دون أي تمييز) على
الجريمة ودعاة نظرية المؤامرة و"تحميل فرنسا والغرب المسؤولية عنها"...
زياد ماجد