يبدو أحياناً أن السمتين الأكثر
حضوراً في الحياة السياسية اللبنانية في السنوات الأخيرة هما الفراغ والانتظار: الأول،
مردّه الخواء السياسي واجترار الأفكار والمقولات والمفردات وقراءة العالم بأسره من
منظار محلّي تبسيطي؛ والثاني، سببه تعليق الأوهام والتمنّيات والمخاوف على الآتي
من خلف الحدود، أو من الاحتمالات الكامنة داخلها شقاقاً ووفاقاً على حدّ سواء.
هكذا، يَستغرق تشكيل الحكومات
أشهراً، ثم تبدو خلال أشهر ولايتها وكأنّها تستكمل تصريف الأعمال الذي استهلّته
سابقاتها. وهكذا أيضاً، ينسى كثر من اللبنانيّين أن لديهم برلماناً، ثم يذكّرهم بوجوده
خلاف بين كتله حول قانون انتخاباته أو يعيدهم الى متابعة جلساته عزمه على التمديد
لنفسه! وهكذا أخيراً وليس آخراً، يُدار الأمن بلا غطاء سياسي مؤسّساتي يوجّهه، ويتّكل
مسؤولوه على التواطؤات غير المباشرة لتفادي الصدامات الكبرى، في حين تُسيَّر
الموازنات العامة للدولة على أسس القاعدة الإثني عشرية بلا كلل ولا ملل. حتى أن
التقنين الكهربائي يكاد يتحوّل الى جزء من المشهد الوطني العام، وكأنه سلطة في
ذاتها أو مؤسسة من المؤسسات المصرّفة أعمالها المنتظِرة بدورها ما قد يُعدّل يوماً
أمورها وشجونها.
ويمكن القول إن قسماً كبيراً من
اللبنانيّين طبّع مع الواقع هذا وتعايش معه، وصار يبرّره ناسباً الفراغ مثلاً الى الانتظار:
إنتظار جلاء الوضع السوري، وانتظار معالجات الملف النووي الإيراني، وانتظار تراجع
التوتّر المذهبي، أو بكل بساطة إنتظار ضبط الأمن الداخلي ووقف الاشتباكات في
طرابلس.
والحقّ أن للمنتظرين حججهم التي
يرونها راسخة. فلبنان يعيش منذ العام 2005 حالة ارتباط وثيق بالتطوّرات العاصفة من
حوله. وليست القسمة الشعبية السياسية والمذهبية وحدها ما يبقيه مشدوداً الى صراعات
محيطه الجغرافي، بل أيضاً نظامه السياسي وارتباط إحدى القوى الطائفية الكبرى (حزب
الله) بالصراعات. وهذا يجعل كل تحليل أو توقّع أو مشروع رهين رصد أوضاع "الشرق
الأوسط" وعلاقة الأطراف اللبنانية بها، ويجعل كذلك الانتظار والترقّب نشاطين
وطنيّين هما المتاح اليسير.
المشكلة أن تحوّل الحجج هذه الى
نمط حياة، أو الى نهج سياسي، يساهم في جعل ما يُفترض أنه مؤقّت مديداً ويخلق
الأعذار للقوى السياسية لتمدّد ولاياتها وتصرّف أعمالها وتستسلم هي أيضاً للأمر
الواقع (أو تتمتّع به). كما أنه يساهم في توفير ظروف عامة فيها مقدار كبير من
اللامبالاة، تسمح لحزب الله أن يزيد انخراطه العسكري الخارجي وأن يمعن في إظهار
هشاشة ما تبقّى من سيادة الدولة المركزية على قراراتها في الأمن والسياسة
الخارجية...
هل يمكن الوقوف في وجه هذا التطبّع
مع الفراغ والاستسلام للانتظار؟ ربما. لكن الإجابة الفعلية لا يمكن ان تأتي من غير
المعنيّين مباشرة بها وبترجمتها.
زياد ماجد