تختلف الدلالات السياسية لأحداث صيدا المأساوية عن تلك التي سبقتها في
طرابلس لثلاثة أسباب.
الأول، لأن الفارق بين التكوين المذهبي للمدينتين وجوارهما مهمّ ولأن موقعيهما
الجغرافيّين يحدّدان أدواراً سياسية تتخطّى حدودهما العمرانية.
الثاني، لأن الاشتباكات في صيدا ليست محصورة بأطراف أهليّة تتقاتل على وقع التوتّر
السياسي في لبنان أو المعارك في سوريا، كما درجت العادة طرابلسياً، بل هي استهدفت
الجيش اللبناني وتحوّلت الى مواجهة كبيرة معه.
الثالث، لأن توقيتها يجيء بعد حرب القصير والذريعة "الاستباقية"
التي اعتمدها حزب الله كواحد من مبرّرات قتاله فوق الأرض السورية.
بهذا المعنى، تتخطّى أحداث صيدا الشيخ أحمد الأسير وظاهرته السياسية التي
تحوّلت من فولكلور مذهبي منفّر الى محاولة بناء قوّة مسلّحة قد تكون أجهزةٌ
أقنعتها بقدرتها على التصدّي لحزب الله ونفختها (عن قصد أو عن غباء) الى حدّ القتل
الانتحاري.
فالأحداث تقع هذه المرّة في عاصمة الجنوب وبوّابته الأساسية حيث التماس
السني الشيعي يجاور أكبر المخيّمات الفلسطينية وأكثرها توتّراً وتهميشاً (عين
الحلوة). وهي تزجّ بالجيش في معركة لا يمكنه عدم الحسم فيها بعد تعرّضه المباشر
للنار وسقوط العديد من الإصابات في صفوفه. وهي تُبرز جوّاً مفتعلاً في البلد هُيّئ
له إعلامياً وسياسياً منذ سنوات، مفاده أن خطراً سلفياً يتهدّد لبنان وتركيبته
وطوائفه، وأنه تصاعد منذ انطلاق الثورة السورية، وينبغي بالتالي تسليط الضوء على عنفه
وتطرّفه باعتبارهما تهديداً للدولة والاستقرار والعيش المشترك... ومع هكذا خطر
داهم، تصير الترسانة الصاروخية التي يمتلكها حزب الله تفصيلاً، ويصير إسقاطه الحكومات
بالقوة العسكرية (وعلى مرأى من الجيش) جزءاً من اللعبة السياسية التي لا تهدّد
"النسيج الوطني" و"أقلّياته". أكثر من ذلك، يبرّر هذا "الخطر
السلفي" قتال الحزب في سوريا واجتياحه القصير، إذ هو حمى في ذلك لبنان من "أسيريّين"
على شاكلة من قتلوا عناصر الجيش في صيدا، وكان يمكن لو تسلّلوا عبر الحدود أن
يُعملوا المجازر بالناس الآمنين.
أحداث صيدا هي إذاً على تقاطع
مع ذرائع متّخذة للتدخّل في "الشأن السوري" ومع توازنات سياسية-مذهبية
لبنانية تتخطّى مجرياتها المباشرة. وهي إذ تتطلّب حسماً أمنيّاً تجاه المسؤولين
عنها وعن قتل الجنود والضباط والمدنيّين، تتطلّب أيضاً، كي لا تتكرّر وكي لا يصير
عناصر الجيش رهائن تجاذبات وتصفية حسابات لاحقة متنقّلة، تذكيراً بأن كلّ سلاح
خارج الشرعية هو خطر على السلم الأهلي، وأن مقولة "الشعب والجيش
والمقاومة" هي مقولة تؤسّس في لبنان لكل ضروب الميليشيات والعصابات المسلّحة،
خاصة في ظل تعطيل المؤسّسات الدستورية وتغييب الهيئات القضائية.
الجيش يدفع اليوم بعض أثمان التردّي
المريع للأوضاع في البلاد، وعلى من تبقّى من مسؤولين أو من فاعلين يملكون حسّ
المسؤولية أن يُعينوه لكي تكون تضحياته في صيدا هي الأخيرة، ولكي لا يصير
"الجيشَ الأسير": ذلك الذي تأسره على مدار الساعة مواجهات مع تنظيمات وحالات
يعزّز غباءَها وتعصّبها بقاءُ الحدود الدولية مفتوحة لحزب الله وانتهاكه بالسلاح
مواقف لبنان "الرسمية" كما قناعات الكثير من مواطنيه...
زياد ماجد