لا شكّ أن قسماً متزايداً من
المواطنين اللبنانيين يشعرون بغُربة عن الاصطفافين السياسيّين الرئيسيّين في
البلاد. ولا شك أيضاً أن من حقّ هؤلاء التعبير عن غُربتهم هذه وعن رفضهم لمواقف
الطرفين ولممارسات بعض أتباعهما في الشوارع قطعاً للطرقات أحياناً وتبادلاً لإطلاق
النار أحياناً أخرى.
وإذا كان صحيحاً القول إن
الطرفين يتساويان في الكثير من مفردات خطاباتهما وفي أكثر سمات ثقافاتهما السياسية
إضجاراً وتحريضاً مذهبياً، وإذا كان صحيحاً كذلك التسليم بارتباطاتهما بحلفاء
خارجيين، فما ليس صحيحاً على الاطلاق هو اعتبارهما متساويَين في القدرات والمسؤوليات
عن تفاقم الأمور أو في أشكال الارتباطات وتبعاتها.
فمقارنة جيش منظّم قوامه ألوف
المقاتلين المتفرّغين وعشرات ألوف الصواريخ والمنظومات الحربية بفتية أحياء أو
شبّان لاهثين خلف مسدّسات وبنادق ودواليب لا يستقيم، تماماً كما لا تستقيم
المقارنات بين طائفية – دينية تملك كل المقوّمات الايديولوجية المرتبطة بمحور
إقليمي شديد التعاضد مالياً وعسكرياً، وأخرى زبائنية تشبه مجمل الطائفيات التي
عرفها لبنان منذ نشأته دولةً مستقلة ولا يتخطّى ارتباطها الخارجي حدود ارتباطات سياسية
مالية كانت قائمة في حقبات سابقة عليها (وهي في أي حال موضع استنكار ولا يشكّ أحد
بمخاطر تحوّلاتها المستقبلية إن استمرّت التوتّرات الداخلية والإقليمية على ما هي
عليه)...
أكثر من ذلك، يمكن القول إن
تجاهل فعل الاغتيال السياسي الذي طال في 14 مناسبة كئيبة شخصيات محسوبة سياسياً
على معسكر واحد واعتبارها عناصر من الإضجار مثلها مثل الخطابات والاعتصامات
المستدعية استنكاراً ومسيرات إنما يُسهم في جعل القاتلين على سويّة مع القتلى في
التسبّب بالتشنّج وإثارة القلاقل! ولعلّ في حادثة اغتيال العميد وسام الحسن
الكارثية وشكل تعاطي بعض "الحياديين" معها ما يثير التساؤلات الأخلاقية
وليس فقط السياسية حول مواقفهم. فبعض ما قيل وتردّد من قبل "القرفانين" بدا استياءً من الحسن نفسه
لتسبّبه لحظة موته ورفيقه بقتل مواطنة وخراب بيوت سكّان آمنين. هكذا يصبح الرجل
المُستهدف بالقتل مسؤولاً عمّا تسبّب به موته من موت إضافي أليم، أو في أحسن
الأحوال يصبح في مسؤوليّته صنوَ مفجّر العبوة التي أردته وأصابت ناس المكان
الأبرياء. ويمكن على هذا الاساس الاعتقاد أن تصفيته لو تمّت قنصاً مثلاً واقتصر
الموت عليه لجرى تصنيف الأمر جزءاً من "صراعات السياسيين المملّة"
المستنكَرة والمرفوضة بالمقادير نفسها. وإن لم يكن الأمر على هذا النحو، فما معنى أن
يخلو الاعتراض (الضروري) على احتمالات الفتَن وانفلات الغرائز والعنف من الإشارة
الى الرجل بالاسم والصورة وهو الذي أطاح القتَلة بحياته وبحياة غيره مستهلّين بالممارسة
والتطبيق الدموي مسار الفتنة والعنف الذي يخشى من احتمالاته "بيض الأيادي
والمسيرات"؟
المشكلة المستعصية في لبنان
اليوم لا تُعالج من خلال التبرّم من الجميع ومناداتهم بالرحيل. فلا النظام السياسي
سيرحل برحيلهم، ولا الكتل الطائفية وصراعاتها وأوهامها ستذوب، ولا الصواريخ
وارتباطاتها بمصادر تصنيعها وتوريدها ستتبخّر.
المشكلة تتطلّب انخراطاً في
الشأن العام وليس انكفاءً، وتتطلّب ربما بناءً لتيار سياسي مدني جديد يضع الاصلاح
السياسي وسبل إضعاف الولاءات المذهبية وتحالفاتها الخارجية نصب عينيه، ويضع قبلها
موضوع السلاح الخارج عن سلطة الدولة ومؤسساتها الشرعية بمختلف عياراته وأنواعه واستخداماته
وشعاراته كهدفٍ أوّل له، لا تستقيم من دون نزعه لا سياسة ولا أمن ولا راحة من
ضوضاء التحريض والحماقة وهتافات الثأر والثأر المضاد...
زياد ماجد