تجمع المعاناة المباشرة من النظام السوري ثلاثة شعوب في
المشرق العربي. الشعب السوري أوّلاً، والشعب الفلسطيني ثانياً، والشعب اللبناني
ثالثاً. على أن معاناة الشعب الفلسطيني لها معنى خاص، أو بالأصحّ مدلولات خاصة. ذلك
أنه بِاسم قضية هذا الشعب جرى سجن الشعوب الثلاثة.
فقانون الطوارئ ومنع الأحزاب والسطو على الدولة والمجتمع
وحماية "الخاصرة الرخوة" والتصدي لمشاريع الاستسلام جميعها تمّت
إنطلاقاً من مقولة "أولوية القضية الفلسطينية". وحروب مخيّمات لبنان
ارتبطت بالأولوية إياها، تماماً كما ارتبطت بها التوقيفات والقهر في مخيّمات
سوريا. ويكفي أن يكون واحد من أبشع فروع التعذيب في دمشق مسمّى "فرعَ
فلسطين"، ليفهم المرء العلاقة العضوية التي انشأها نظام الأسد بقضية التحرّر
الفلسطيني، إذ حوّلها الى سجن مادي مظلم من جهة، والى معتقل رمزي قاتم من جهة
ثانية. في الأول، يكدّس معارضيه السياسيين، سوريين وفلسطينيين، ويسِمُهم بالخيانة
ومعارضة قضيته "المركزية" فيعاقبهم بالتعذيب والتحقير. وفي الثاني، يُسدل
لغة ومصطلحات على العقول، تلجم باللغو الممانع خصومه وتعاملهم بوصفهم "أعداء
فلسطين" وأعداء رايتها المعتمَدة علماً للبعث.
هكذا ثبّت النظام شبكات تدجين واغتيال للحريات وتكريس
لطغيان عنوانها "فلسطين"! حتى إذا نهض لتحدّيه أحد، أخرج من دُرج
اجتماعاته الأمنية مضبطة الاتّهام الجاهزة، وشهرها ضدّ من "سوّلت له نفسه
التآمر على فلسطين" ثم زجّ به في "فرع فلسطين".
وهكذا أيضاً، وضع النظام برنامجاً كاملاً صار هوية
لممانعين (ممّا هبّ ودبّ)، يردّدونه عن ظهر قلب، محوره تبرير كل موبقاتهم بحجة
فلسطين، وقراءة العالم بأسره (نِفاقاً أو بلاهةً) بوصفه عشّ مكائد ودسائس تستهدفهم
لأنهم الناطقون – مثل نظامهم - بِاسم فلسطين.
وقد استمّر البغي هذا طيلة عقود أربعة، حتى إذا اندلعت
الثورة السورية، منشدة الحرية والعدالة، رفع النظام وحلفاؤه الممانعون السيف إياه
في وجهها، ظانّين أنه رادع. لكنّهم بوغتوا هذه المرة واكتشفوا أن الأوان قد فات،
وأن صلاحية السطو والفجور انتهت. ففرع فلسطين لم يعد يرعب كثراً، ومخيمات اللاذقية
ودرعا وحمص كما مخيمات دمشق وسائر الحواضر السورية تماهت مع جوارها، وأسقطت بأسابيع
معدودة، سنوات من الرياء والوضاعة...
واليوم، ها هي الثورة تصدّع جدران "فرع
فلسطين" ذاته. وها هم السوريون (والفلسطينيون) ينتشلون الضوء من بين زنازينه.
وغداً حين ينهار، سيمرّ أمامه عشرات الألوف ممّن خلّفوا نتفاً من أعمارهم فيه،
وسيبنون على أنقاضه متحفاً لذاكرة جميع من نُهبت سنواتهم وآمالهم، وخُنقت أصوات
أمّهاتهم على الأرصفة وخلف مواقف الانتظار الطويل...
زياد ماجد