يصعب
فهم الأزمات اللبنانية التي تخلّلت السنوات السبع الماضية، التالية لانتفاضة
الاستقلال عام 2005، دون التوقّف عند متغيّرات ثلاثة كبيرة طرأت على الاجتماع
السياسي (وهي بالطبع بدأت منذ التسعينات).
فأوّلاً،
تعمّقت الانقسامات العامودية وازدادت قوّة الاستقطاب داخل كل طائفة على نحو لم يشهده
لبنان من قبل. ولا يؤثّر في الأمر أن التحالفين السياسيين الكبيرين، 8 و14 آذار،
يضمّان قوى طائفية مختلفة. فالاستقطابان الشيعي – عبر الثنائي حزب الله وحركة أمل
- والسنّي – عبر تيار المستقبل - تخطّيا في قوّتهما داخل طائفتيهما كل ما سبقهما
الى الآن. كما أن الانقسام المسيحي الحاد تجاههما جعل فلسفة الميثاق الوطني
والقسمة التأسيسية المسلمة – المسيحية متخطّاة لصالح قسمة سنية شيعية يتوزّع على
جناحيها المسيحيون.
وثانياً،
توثّقت العلاقة بين أطراف الداخل والخارج وصار الانكشاف اللبناني على صراعات الشرق
الأوسط إنكشافاً شبه كامل، ليست بعض المنظّمات العسكرية وسيلته أو أداته كما كان
الأمر خلال الحرب، بل صارت كتل مذهبية بأكملها من خلال القوى المهيمنة عليها هي
الأداة والوسيلة.
وثالثاً،
برز طرف في الساحة اللبنانية يملك فائض قوة لم تعرف السياقات الحزبية والطائفية
والسياسية اللبنانية مثيلاً له في تاريخها. عنينا حزب الله، المالك إيديولوجيا
دينية وقدرة تعبوية ومؤسسات مالية وإعلامية وتعليمية وكشفية وصحية واستهلاكية
وسياحية مضافة الى أجهزة أمنية وعسكرية (قد تكون أقوى من أجهزة الدولة)، ومضافة
أيضاً الى تحالفات خارجية عضوية مع إيران واستراتيجية مع نظام دمشق.
هذه
المتغيّرات جميعها تجعل الديمقراطية التوافقية التي سادت بين العامين 1943 و1969
في حال أفول إن لم نقل منازعة. وهي تتسبّب بإقحام الخارج في مختلف التفاصيل
اللبنانية توتيراً أو تهدئة. كما أنها تخلق خللاً خطيراً في موازين القوى لصالح
حزب الله، ويمكنها بالتالي أن تدفع الأطراف المواجهين له (في الساحة السنية تحديداً)
الى البحث عن توازن رعب معه يعطّل فائض قوته ويحاول ردعه، مع ما قد يؤدّي إليه الأمر
من مخاطر.
والمتغيّرات
المذكورة تعني أيضاً إبطالاً لسيادة المؤسسات ومبدأ فصل السلطات. فهي تُخرج المرجعية
السياسية من مؤسسات الحكم، وتضعها لدى زعماء القوى الطائفية الكبرى الذين ينتدبون
من يمثّلهم في الحكومة، والذين تجري العودة إليهم للبتّ في القرارات وحسم اتجاهات
التصويت وإجراءات التعيينات الأمنية والديبلوماسية وكل ما يرتبط بسيادة الدولة من
ممارسات إدارية...
هل
من سبيل لمواجهة هكذا متغيّرات وهكذا أزمات، خاصة في ظل التوتّرات المتصاعدة راهناً
في البلاد، وفي ظل تهديدات النظام السوري بإحراق المنطقة؟
لا
تبدو الإجابة سهلة. لكنها تبقى أولوية الأولويات، ومحاولات بلورتها هي واجب كل من
يُريد التصدّى للمهام السياسية. فثمة إرادوية ينبغي إعمالها، ويمكن للقوى الكبرى
على الساحة المحلية الحدّ من التدهور أو على الأقل ضبطه ومحاصرة أضراره إن سعت
بجدّية لذلك. وهذا يعني أن حواراً حول الوضع الأمني وقضايا السلاح الآخذ بالانتشار
ودور الأجهزة العسكرية الرسمية في ضبطه صار مُلحّاً، ولم يعد من الممكن أن يستثني سلاح
حزب الله. فبقاء الأخير على حاله يعني - في ظل انغماس الحزب في السياسة الداخلية
وفي ظل تموضعاته الإقليمية المُعلنة والمُختلف حولها بعنف بين اللبنانيين – أن
خصومه المنظّمين أو المتفلّتين من كل تنظيم لن يبقوا مكتوفي الأيدي، وسيجدون في
الداخل والخارج من يتبنّاهم. وهذا يعني أيضاً أن برمجةً لسحب السلاح من الجميع يجب
التفكير فيها، تبدأ بالمدن والتجمّعات السكنية، وتصل الى معاودة البحث في شروط الاستراتيجيا
الدفاعية وقرارات الحرب والسلم وسبل حصرها بالدولة اللبنانية...
وما
يجب البحث فيه كذلك، الى جانب شؤون الأمن، هو الإصلاح السياسي. وللأخير أولويات
مهما حاول المعنيون تأجيلها أو غض النظر عنها، ستفرض نفسها عاجلاً أم آجلاً، لأن
الحياة السياسية صارت معطّلة نتيجة غيابها. وفي طليعتها قوانين الانتخاب
واللامركزية الإدارية والجنسية واستقلالية القضاء، التي لا تقوم دولة من دونها.
أما
أن نبقى في حالة المراوحة والمناكفات الراهنة، فنكون كمن يحترف التحسّر كل شهر على
ضعف الدولة أو غيابها، وعلى وهن المجتمع وتفشّي المذهبية فيه، مؤجّلاً مرة تلو مرة
البحث في المسارات المفضية الى الخروج من الأزمات، أو على الأقل، محاولة الخروج
منها.
زياد ماجد