الأحداث المأساوية المتنقّلة منذ
أيام بين طرابلس وعكار وبيروت ليست وحدها ما يُخيف ويُقلق. فهي كانت الى حدّ ما
متوقّعة. المُخيف أيضاً هو بعض الخطاب السياسي الذي يرافقها، والمقلق كذلك هو قلّة
التدابير المتّخذة للحيلولة دون وقوعها.
فتهديدات النظام السوري بإحراق
المنطقة لاستدراج عروض التفاوض الدولي معه لا يُمكن أن تُترجم راهناً إلّا محاولةً
لإشعال النيران في لبنان. فلا الأردن ولا العراق ولا تركيا ولا الجبهة الاسرائيلية
المقفلة على احتلال الجولان هي مواضع مناورات لنظام دمشق المتصدّع. ولا قطاع غزة
بعد انسحاب حماس من سوريا يصلح لاستثمار دموي-سياسي يصرف النظر عن الثورة السورية.
وحده لبنان، يمكن تحويله الى مسرح عمليات و"صندوق بريد" لثلاثة أسباب.
الأول، أن هشاشة الإجماعات
الوطنية فيه، والقدرة على استثارة نزعات مذهبية أو سياسية وتحويلها الى صدامات،
تسمح للاعب إقليمي حكمه بين العامين 1990 و2005 واحتلّه عسكرياً قبل ذلك طيلة
سنوات الحرب تقريباً (من ال1976 الى ال1989) أن يحرّك الشياطين النائمة فيه. وهي
شياطين كوّنها التوتّر والاحتقان والعنف ومصطلحاته المتراكمة منذ 14 شباط 2005 ثم
7 أيار 2008 وما قبلها وما بعدها من صراعات واتّهامات. وهي شياطين تتناسل من ذاكرة
لم يُبذل جهدٌ لبناني كافٍ للتنقيب فيها وتنقيتها تماماً من الضغينة والأحقاد.
الثاني، أن الصراع على زعامة
الطائفة السنية، التي ما زال سعد الحريري وتيار المستقبل يحتلّانها، لا يسير حتى
الآن وفق رغبة بعض الأطراف "الأقلّويين" اللبنانيين، ولا طبعاً وفق رغبة
الحكم في سوريا. فبمعزل عن تقييم الأداء السياسي والاقتصادي للحريرية، لا تعبّر
الأخيرة في خطابها أو سلوكها عن أي نزعة دينية أو تشدّد اجتماعي. وهذا يناقض
التخويف الدائم من بعض القوى والمرجعيات داخل لبنان، ومن أنصار النظام السوري كما
من الأخير نفسه، من "البعبع" السني ومن السلفية والوهابية والأخوانية
الزاحفة على المنطقة. فأن يكون ممثلو السنة السياسيين ليبراليين (وهم طائفيين لكن غير
دينيين)، ففي الأمر إرباك، لا بل تهافت، لمنطق مفضّلي حزب الله (الطائفي والديني)
عليهم، أو نظام الاستبداد الأسدي (بحجة مواجهته "الأصولية").
لذلك، يفيد النظام السوري
وأعوانه ودعاة الخوف الأقلّوي إضعاف الحريرية وإبراز تيارات داخل الصفوف السنية لبنان تميل الى التشدّد المذهبي والى ردود الفعل العنيفة تجاه استهدافها
الثالث، أن شمال لبنان هو اليوم
موقع التجريب التخريبي المُفضّل للنظام السوري. فحزب الله غير موجود (نظرياً على
الأقل) فيه، وهذا يُحيّد الحزب وراعيته إيران والكتلة الشيعية عن أي صدام مباشر.
إذ للحزب وطهران أجندة تتقاطع مع الأجندة الرسمية السورية، ولكن من دون التماهي
الكامل معها. فالأولويات لديهما تبدأ بالترتيب النووي وبالتموضع اللبناني وحدوده
الجنوبية، وبعد ذلك تصل الى دمشق ومآل الحكم فيها.
وهذا يعني أن الصدامات في
الشمال يمكن أن تتّخذ ثلاثة أبعاد. البعد الأوّل مذهبي "سني – علوي"
ينكأ جراح المدينة وذاكرة الحرب بين التبانة وجبل محسن، ويشكّل صدى لما يريده
النظام السوري فرزاً طائفياً في سوريا وجوارها المباشر. البعد الثاني "سنّي –
أقلّوي" يعمل على تحريك التوتّر من خلال حلفاء لنظام دمشق، علمانيين تبرز في
صفوفهم "أقلّيات". وهذا يعني مثلاً الحزب القومي السوري الاجتماعي ذا
القاعدة المختلطة طائفياً في عكار، والذي كان يُحيي منذ يومين، لحظة مقتل الشيخ
عبد الأحد ورفيقه، ذكرى ضحايا جريمة حلبا قبل سنوات. أما البعد الثالث، فهو
"سنّي – سنّي"، ذلك أن الصدام مع "الآخر" يستدعي توحيد الجبهة
الداخلية. وهذا لن يُدخل الحريرية في تنافس مع بعض التيارات الاسلامية الحاضرة في
الشمال فحسب، بل سيُدخل أيضاً رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إبن طرابلس بدوره في الحلقة
التنافسية. وطبعاً، في حالات مشابهة، تتداخل القواعد الاجتماعية، وتبرز القوّة
الأكثر بأساً في مقارعة "الخصوم" ملزمة الآخرين بالمزايدة عليها
للمحافظة على البساط تحت أقدامهم.
بالأبعاد الثلاثة هذه، يجعل
النظام السوري لدعايته تجسيداً ميدانياً، وتتحّرك الماكينة الإعلامية اللبنانية
الموالية له تحريضاً، وهذا ما بدأنا نتلمّسه منذ أيام، مع تصاعد لاستخدام عبارات
حقد وتعصّب وكراهية، ومع وسم لبشر، أفراد وجماعات، بالسلفيّة، بما يوحي بخطرهم
وبالتحريض عليهم...
هل من تدابير لمحاصرة هكذا
أوضاع مرشّحة للانتكاس؟
لا فائدة طبعاً من الوعظ.
والمعنيّون مباشرة يدركون جسامة المهام الملقاة على عاتقهم، من مهمة التحقيقات
الجدية لمحاسبة أيّ قاتل ولو كان صاحب بدلة عسكرية، الى مهمّة رفع الغطاء السياسي عن
كل مسلّح في الشارع ونشر الجيش وقوى الأمن
مع دعم كامل لمهامهما (الأمنية حصراً)، وصولاً الى مهمّة التعامل مع بعض المسائل
المخفّفة للاحتقان، مثل إنهاء محاكمات الموقوفين الإسلاميين منذ سنوات بلا مسوّغات
قانونية، ومثل الدعوة الى لقاءات وتشكيل لجان شعبية في الأحياء المتوتّرة في
طرابلس وعكار لحلّ الإشكالات وتنظيم الأنشطة الاجتماعية، ومثل دعوة مسؤولي الأحزاب
والنواب وأعضاء المجالس البلدية وفاعليات المجتمع المدني الى تكثيف جهودهم لتطويق
الحوادث وذيولها... ولعل مهمة المعارضين للنظام السوري أو المعنيين بالهدوء
والاستقرار هي الأصعب، إذ أن مصلحتهم (ومصلحة الثورة السورية) هي في عدم الوقوع في
الفخ الذي يُنصب لتصدير أزمة النظام الى لبنان وتسويق دعايته حول "الهجمة
السلفية" في المنطقة. وهذا يفرض عليهم مضاعفة الجهود ومصارحة الناس بالأمر
وبلغة رصينة وواضحة.
كل ما ذُكر يبقى
محاولاتٍ غير مضمونة النجاح، لكنّها تستحق أن يخوضها الحريصون على استقرار بلدهم
ورفض التقاتل والتصارع فيه. على أنها تبقى أيضاً محاولات للمدى القصير. فلا حلول
على المدى البعيد لما صار من الممكن تسميته بالمعضلة اللبنانية، دون البحث في
إعادة بناء الدولة وتحديد مهامها ونظامها وفلسفتها وقوانين الانتخاب والجنسية
واللامركزية الإدارية واستقلالية القضاء فيها، ومن دون احتكارها وحدها السلاح
والوظائف الأمنية والدفاعية. أما غير ذلك، فسيظلّ استقرار هذا الوطن الصغير مُهدّداً
لأسباب داخلية، أو لأُخرى خارجية تجد فيه الوهن اللازم لتصدير صراعاتها إليه. فكيف
وهو اليوم يعاني من الانقسامات الحادة ومن تآكل سيادة القانون ومن وجود جهاز عسكري
أهلي أقوى من أجهزة الدولة نفسها؟...
زياد ماجد