ليس القول في مَلل قسم كبير من اللبنانيين من السياسة
"المحلّية" اليومية مبالغةً أو تهويلاً، ولا هو يعني تراجع شعبية بعض المسؤولين
داخل طوائفهم ومذاهبهم. كما أنه ليس مدعاةً لتبسيط الأمور وإلقاء الملامات على زيد
أو عمرو، في وقت صار جليّاً عمق الأزمة في النظام وفي صيغته التوافقية، وثقل الأسر
الإقليمي للدولة الذي يجعلها رهينة تسويات أو صدامات لا ناقة لها فيها ولا جمل. من
دون أن ننسى أن لا إمكانية أصلاً لتعديل شروط النِصاب السياسي القائم في ظل فائض
قوة طرفٍ يُتيح له تعطيل المسارات السياسية والمؤسسات الدستورية حين "تستدعي
الحاجة".
لكن القول بمَلل الكثيرين في لبنان، رغم العوامل
المذكورة المحيطة بالحياة السياسية، يبقى جائزاً لأنه يعني السقم من الرتابة
والمناكفات والتهديدات التي غالباً ما لا تقدّم ولا تؤخّر. ولأنه يعني أيضاً تعباً
من قراءة مجريات العالم وما فيها انطلاقاً من حسابات لبنانويّة ضيّقة صارت روتيناً
لا يولّد إثارة ولا يحرّك آمالاً ولا يخلق مفاجآت تُلزم بالرد عليها أو التعاطي
معها خارج منطق "العادة".
حتى التعبئة التي ميّزت اللبنانيين على اختلاف أهوائهم
ومعسكراتهم بين العامين 2005 و2009، تبدو اليوم، إن استعيدت، جزءاً من
"العادة". والأخيرة كل ما تكرّست، كل ما تحوّلت مَللاً.
هل هذا يعني أن متابعة الشؤون السياسية اللبنانية وعدمها
يتساويان، أو أن الإستسلام للملَل "طبيعي" ومقبول؟
طبعاً لا. فالمتابعة والنقد ورمي الحجارة في المياه الراكدة
عناصر ضرورية لإبقاء بعضٍ من الرأي العام معنيّاً بما حوله، مقاوماً للاستكانة
الكاملة. وطبعاً لا، لأن الانكفاء يُديم الأوضاعَ المشكوّ منها ويسهم في تعميم
أضرارها.
على أن المتابعة والنقد ورفض الاستسلام، قد لا يكفيان.
فالمفيد، بموازاتهما إعادة المعنى الى السياسة بوصفها برامج وأفكاراً ونشاطات
ولقاءات وحريات وتحالفات. وبوصفها مبادرات يطلقها أفراد أو تنطلق بها مجموعات
فتتحوّل الى ديناميات تحدّ من الملَل أو تمنعه على الأقل من الاشتداد. ولحسن الحظّ
أن ثمة مشهداً موازياً لمشهد الملَل اللبناني، يُراكم أسبوعاً بعد آخر هكذا مبادرات: مِن تظاهُرات
المنظمات النسائية والمدنية المطالبة بمنح المرأة الجنسية لزوجها وأولادها، الى
اعتصامات وعرائض رفض العنف والاغتصاب الزوجي، الى الظاهرة الجميلة التي شهدها
لبنان لأول مرة هذا الأسبوع، أي مسيرة العاملات والعمّال الأجانب المقيمين فيه،
الى الأنشطة الشبابية المتمسّكة بحرية التعبير والمدافعة عن الفنّانين والناشطين في
وجه القمع والرقابة، وصولاً الى حملات التضامن مع اللاجئين السوريين ومع الثورة
السورية، على صغر حجمها ورمزيّتها، في وسط مدينة بيروت وفي حرم الجامعة الأميركية كما
في البقاع والشمال. وطبعاً، لمسيرة العلمانيين في نسختها الثالثة يوم 6 أيار
المقبل مكان أساسي في هذا المشهد الموازي بألوانِه البهية.
هكذا، تواجه مجموعات عديدة الملَل لتحدّ من انتشارهه. أو
هي تقاومه وتُعيد الاعتبار الى قضايا كاد الموات يطويها أو يبتلع البحث فيها
ويحيلها مواداً للتراشق والتشاتم بين نفرٍ من السياسيين. المهمّ اليوم أن تستمرّ
هذه المجموعات ومبادراتها، وأن يواكبها كلّ من يعتقد أن الحركة خير من النوم، وأن
فيها بركة قد تقلّص بهتان الوقت المستقطع قبل الاستحقاقات الإقليمية وتداعياتها المحلّية،
الكبرى كما الصُغرى...
زياد ماجد