ثمة مقولات تعتمدها بعض الكتابات والتصريحات العربية والغربية مفادها أن السلام الفلسطيني والعربي مع إسرائيل ممكن، وأن المشكلة لا تكمن سوى في بعض الظروف الموضوعية غير المتوفّرة اليوم.
لمناقشة هذه المقولات، بسذاجتها أو بغاياتها الترويجية للمواقف الإسرائيلية، يستعرض النص التالي عدداً من المسائل المرتبطة بإسرائيل ذاتها وبديمغرافيّتها وبعلاقتها بمسار "السلام" التي غالباً ما يتمّ تغييبها عند الحديث عن "حلفاء بنيامين نتنياهو المتطرّفين" أو عن القوى الفلسطينية المعادية للتسوية والرافضة لأي تفاوض.
مفاوضات السلام السرّية والعلنية ومآلاتها
لم تقبل إسرائيل مرّة، ولغاية توقيع اتفاق أوسلو العام 1993، باستخدام لفظة "فلسطينيين" للتعريف بأعدائها، أهل الأرض الواقعين تحت الاحتلال أو المشرّدين في مخيّمات اللجوء خارج فلسطين التاريخية. ظلّت تسمّيهم بالعرب، مع ما يعنيه الأمر لها من مشروعية تهجيرهم نحو بلادٍ عربية أخرى، لا يُفهم تمنّعهم عنها وإصرارهم على مقاومة تملّك المهاجرين اليهود لأرضهم بوصفها "موطنهم الموعود".
ورغم الكثير من اللقاءات السرية والأقل سرية
التي انعقدت بين فلسطينيين وإسرائيليين في السبعينات، ثم في الثمانينات، ظلّ
الموقف الرسمي الإسرائيلي ثابتاً على رفض الاعتراف بأي كيانية فلسطينية، وعلى رفض
الانسحاب من الأراضي المحتلة العام 1967 (قبل عشرين عاماً من تأسيس حماس) ورفض حقّ
العودة للاجئين، رغم قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة.
ولم تقبل حكومة إسحق شامير الليكودية بمبدأ التمثيل الفلسطيني في مفاوضات السلام المنطلقة في مدريد العام 1991 إلاّ بعد أن فرضت عليها واشنطن الأمر ولَو مع مقايضات، إثر ضغط من بوش الأب ووزير خارجيته جيمس بيكر تضمّن تجميد مساعدات وتهديداً لشامير، وهو ما ساهم لاحقاً في هزيمته الانتخابية أمام إسحق رابين، الجنرال المتقاعد المسؤول عن سياسة تحطيم عظام الأطراف خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى العام 1987، والموافِق على التفاوض أخيراً مع منظمة التحرير.
أدّى هذا التغيير في القيادة الاسرائيلية بعد
عام الى توقيع أوسلو، في أيلول 1993، والى انطلاق مسار تفاوض إسرائيلي
فلسطيني مباشر هدفه التعامل مع أربع قضايا لم يُفلح الاتفاق في إيجاد صيغ حلّ لها:
قضية المستوطنين في القدس الشرقية والضفة وغزة، قضية عودة اللاجئين، قضية تقاسم
القدس وقضية الحدود والسيادة على الأمن والموارد وما تتطلّبه من إجراءات ومؤسسات.
ومنذ لحظة توقيع أوسلو، على نواقصه الفاضحة،
جاهر صقرا حزب الليكود اليميني يومها، الجنرال المتقاعد أرييل شارون قائد اجتياح
لبنان العام 1982 وما تخلّله من مجازر (سابقة على تأسيس حزب الله)، وبنيامين
نتنياهو، السفير العائد من واشنطن، برفض الاتفاق. فتعهّد الأول "أن يكرّس أي
يوم يتبقّى له في حياته لتمزيقه" في حين سار الثاني في مظاهرة اليمين
الاسرائيلي الشهيرة التي رفعت تابوتاً يمثّل أوسلو ومفاوضات السلام.
ونتج عن جوّ التحريض الليكودي والكاهاني (نسبةً للتيار الموالي للفاشي مئير كاهانا) أن قتل متطرّف إسرائيلي عشرات المصلّين الفلسطينيين في الحرم الابراهيمي في الخليل العام 1994، فردّت حماس بعمليات في العمق الإسرائيلي قتلت عشرات الأشخاص أيضاً، ثم اغتال متطرّف إسرائيلي آخر رابين العام 1995، ودخلت إسرائيل مرحلة اضطراب سياسي ترأس الحكومة المؤقتة فيها شمعون بيريز الذي لم يوقف الاستيطان في القدس والضفة، وشنّ حرباً على لبنان انطلاقاً من شريطه الحدودي المحتل العام 1996 على وقع اغتيالات لقادة من حماس وردود من الحركة، وانتهى ببيريز الأمر رغم سعيه للمزايدة على اليمين الى خسارة الانتخابات ضدّ عدوّ أوسلو والسلام نتنياهو. وإذ استلم الأخير السلطة لعامين، عمل على عرقلة كل مفاوضات وعلى توسيع الاستيطان قدر الممكن (بحجة "التزايد الطبيعي" للمستوطنين)، وهو ما اعتبره المبعوث الأميركي جورج ميتشل في تقرير تقصّي حقائق لاحق، العنصر الأكثر تهديداً لكل سلام. ولم يوقف فوز الجنرال من حزب العمل إيهود باراك، قاتل القادة الفلسطينيين الأربعة في بيروت العام 1973، على نتنياهو في انتخابات العام 1999 الاستيطان المذكور، وركّز باراك على التفاهم مع سوريا وعلى الانسحاب من لبنان متخلّياً لفترة عن مفاوضات السلام مع الفلسطينيين، قبل أن تتسبّب زيارة شارون الاستفزازية الى المسجد الأقصى وقتل عشرات الفلسطينيين في أيلول 2000 بانطلاق الانتفاضة الثانية في وجهه وبفشل الجهد التفاوضي الأخير في كامب دافيد وفي طابا وبخسارة اليسار الإسرائيلي السلطة. وقد ظلّ الحُكم منذ ذلك الحين وحتى اليوم في يد اليمين، أو الوسط، وصولاً الى تحالفات اليمين وأقصى اليمين منذ 4 سنوات، مع توليّ بنيامين نتنياهو السلطة لأكثر من 15 عاماً خلال الفترة إياها.
وليس صحيحاً القول إن عمليات حماس والجهاد وبعض تيارات فتح وعدد من الفصائل الأخرى المرتبطة بدخول إيران على خطّ "تخريب السلام في المنطقة" هي من غذّى هذا التوجّه اليميني واليميني المتطرّف للمجتمع الإسرائيلي، ولَو أنها أثّرت فيه وتأثّرت به. فصمت اليسار عن الاستيطان وتوسّعه وعن توحّش المستوطنين والجيش الحامي لهم في القدس والضفة قبل وبعد عمليات حماس وباقي القوى الفلسطينية (ضمن نظام احتلال تعدّه المنظمات الحقوقية العالمية الكبرى ومحكمة العدل الدولية "نظام تمييز عنصري") من جهة، وحصار غزة منذ العام 2007 من جهة ثانية (بعد انسحاب من داخلها العام 2005) وسلسلة الحروب الهمجية ضدّها لغاية العام 2021 التي لم تُواجَه مرّة بجدّية لا من قبل اليسار ولا من قبل "المجتمع الدولي" (بحجة انقلاب حماس فيها على السلطة الوطنية)، والتبدّلات الديموغرافية داخل إسرائيل التي سنعرض لها لاحقاً من جهة ثالثة، هي ما جعل الانفلات اليميني والفاشية الإسرائيلية كما يسمّيها عشرات الكتّاب والأكاديميين والحقوقيين الإسرائيليين اليوم تصل الى حدود قصوى من العنف. عنف بلغ بعد عمليات حماس في 7 تشرين الأول 2023 (التي كانت بلا شكّ معدومة التقدير للتداعيات ولموازين القوى ولطبيعة العلاقات الدولية في هذه المرحلة) حدود المذابح اليومية والإبادة الجماعية.
كيف اتجّه الإسرائيليون نحو اليمين ويمينه
لشرح جوانب من أسباب التبدّل المجتمعي والثقافي
الإسرائيلي التي ساهمت في دفع الخريطة السياسية نحو اليمين ونحو المزيد من التطرّف
في مواجهة الفلسطينيين، يفيد أيضاً التذكير بعوامل ديمغرافية أثّرت على الخيارات
الانتخابية الإسرائيلية.
العامل الأول يرتبط بقدوم مليون مهاجر من "الاتحاد
السوفياتي" السابق الى إسرائيل بين العامين 1990 و2006. وقد صوّت معظم هؤلاء في أكثر من استحقاق لصالح
اليمين، وخلق بعضهم أحزاباً يمينية متشدّدة (أبرزها "إسرائيل بيتنا")، وبدّلوا
كثيراً من اتجاهات التصويت.
العامل الثاني، يتعلّق بمعدّلات الإنجاب (أو
الخصوبة) في أوساط الحريديم وفي بعض الأوساط اليمينية المحافظة، وبين المستوطنين
في الأراضي المحتلة العام 1967 (وعددهم يقارب اليوم الـ700 ألف) ممّن يصوّتون
لأقصى اليمين. والمعدّلات هذه هي في ارتفاع كبير منذ الثمانينات، وهي أعلى بضعفين
من المعدّل الوسطي في إسرائيل (البالغ 2,8) وباتت نتائجها الانتخابية جلّية بعد
الانتفاضة الثانية، في وقت تزايدت فيه الهجرات من إسرائيل نحو أميركا وألمانيا، وكثرة
ممّن هاجروا علمانيون أو لنقل أقلّ تطرّفاً في علاقتهم بالشأن الفلسطيني (وقد
تضاعفت أعدادهم بعد 7 تشرين الأول 2023 إذ سُجّل منذ ذلك الحين خروج أكثر من 300 ألف
إسرائيلي).
أما العامل الثالث، فيرتبط بتطوّر السلوك الانتخابي الفلسطيني داخل إسرائيل (فلسطينيو الـ48، ونسبتهم من السكان تبلغ الـ20 في المئة)، إذ صار واضحاً بعد الثمانينات، وبشكل خاص منذ التسعينات، إيثار الفلسطينيين التصويت لأحزابهم "العربية" عوض التوزّع بينها وبين الحزب الشيوعي الإسرائيلي وحزب العمل بحجة كونه أقل تمييزاً ضدهم من اليمين. والأمر مفهوم تماماً بعد جميع الخيبات من اليسار الصهيوني، وجميع الفرص الضائعة معه.
كل هذا جعل اليمين يسيطر على المشهد السياسي الإسرائيلي ويفرض لغته ومصطلحاته، ويتحوّل في ممارساته وفي ظلّ حصانة إسرائيل رغم جرائمها وانتهاكاتها للقانون الدولي من تكريس الاحتلال والاستيطان الى العمل على ضمّ الأراضي المحتلة وتنظيم التطهير العرقي وصولاً الى الإبادة الجماعية.
هكذا، يبدو من التجارب الفلسطينية والعربية حتى الآن، أن لا الاتفاق المفتوح على أفق مفاوضات إضافية (أوسلو نموذجاً) ينفع، ولا التعاون مع إسرائيل أمنياً والقبول بأي دور إداري في جزء من الضفة الغربية (سلطة محمود عباس) يغيّر في شيء، وقد تبنّى البرلمان الإسرائيلي العام 2024 الرفض العلني لحلّ الدولتين، ولا التطبيع العربي (الإماراتي والبحريني والمغربي والسوداني، بعد الأردني والمصري) الذي قفز فوق الفلسطينيين وحقوقهم يوفّر استقراراً أو سلاماً في المنطقة. في نفس الوقت، لم تأت المقاومة العسكرية في غزة في ظلّ الأوضاع الميدانية والعلاقات الدولية والانتهاك الإسرائيلي المحمي أميركياً للمواثيق والمعاهدات بأي إنجاز سياسي للفلسطينيين رغم التضحيات المهولة، ونجحت الدعاية الإسرائيلية في تصويرها مرتبطة بسياسات إيران، ودعمت واشنطن عمليات الإبادة والتدمير الكامل والمستمرّ.
ما الذي يمكن فعله إذاً في مواجهة إسرائيل وسياساتها الرافضة لكل سلام؟
تبدو المسارات الحقوقية اليوم الباحثة عن مقاضاة مجرمي الحرب الإسرائيليين، والحملات العاملة على مقاطعة إسرائيل وفرض العقوبات عليها ومحاصرتها، والشبكات الطلابية الجامعية وتحالفاتها في معظم الدول الغربية، وعمليات توثيق جرائم الاحتلال، وتقارير المنظمات الدولية الكبرى التي تدين فظاعاته ونظم التمييز العنصري التي يبتني، والكتابات الجدّية المؤثرة في الرأي العام العربي والعالمي، معطوفة طبعاً على الثبات الفلسطيني في الأرض ورفض التهجير الجديد الجاري الإعداد له ودعم الهيئات الإنسانية الفلسطينية مادياً لتلبية احتياجات الناجين من مجازر إسرائيل، هي ما يمكن فعله في وجه دولة لا تريد سلاماً ولا عدالة، وبعضه يذكّر بما تمّ اعتماده خلال المعركة الطويلة التي خيضت ضد نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا ونجحت بعد عقودٍ في إسقاطه...
في أي حال، ليس هدف هذا النص البحث في الخيارات والبدائل، فهذا شأن آخر، ولا ادّعاء أصلاً بامتلاك أجوبة قاطعة حوله في لحظة عالمية ندر أن شهد تراجع حقوق الانسان والمجاهرة باحتقار القانون الدولي في أعلى مراكز القرار (في واشنطن كما في موسكو أو بكين أو برلين) ما يماثلها منذ الحرب العالمية الثانية.
زياد ماجد
مقال منشور في ملحق القدس العربي