Saturday, November 4, 2023

عن المواقف الغربية الشديدة الانحياز للحرب الإسرائيلية على غزة وعن الخطاب المنادي بصراع حضاري

حوار في جريدة "نداء الوطن"، أجراه حسّان الزين مع زياد ماجد، حول الحرب الاسرائيلية على غزة وخريطة المواقف الغربية تجاهها وتجاه القضية الفلسطينية، وحول خطاب صدام الحضارات الذي عاد الى المشهد الإعلامي والسياسي في عالم يشهد الكثير من التحوّلات في تحالفاته وعلاقات أقطابه.

كيف تقيّم المواقف السياسية للدول الغربية عامة تجاه إسرائيل والحرب في غزة منذ 7 تشرين الأول 2023؟

زياد ماجد: ليس الانحياز الغربي الرسمي لإسرائيل مفاجئاً أو مستجداً، سواء أكان على صعيد المواقف السياسية أم على صعيد معظم وسائل الإعلام المرئي، المختلفة في تعاملها عن وسائل الإعلام المسموع، وعن الوسائل المكتوبة، أي الصحف، التي تتضمن تنوعاً ورصانة مهنية. لكن المستجدّ هو أمر يرتبط بالمصطلحات المستخدمة التي باتت مماثلة للمصطلحات الإسرائيلية. المستجدّ أيضاً هو تراجع التمايز الذي كان سائداً على الرغم من الدرجات المختلفة من الانحياز، بين الأوروبيين والأميركيين. ففيما كانت الولايات المتحدة الأكثر تأييداً ودعماً لإسرائيل منذ حرب ال1967، كان عدد من الدول الأوروبية، مثل فرنسا أو إسبانيا أو إيطاليا وبلجيكا وبعض الدول الاسكندينافية يحاول أن يُبقي نوعاً من التوازن في مقاربته الدبلوماسية وفي تذكيره بِجذر المشكلة، وليس بِتمظهراتها أو بلحظاتها الصدامية العنيفة فحسب.

في الأسابيع الاخيرة، بدا أن أوروبا متماهية في مواقفها الرسمية مع المواقف الأميركية. ولم تتميّز إلا المواقف الاسكتلندية والإسبانية والإيرلندية، إضافة إلى تمايز مسؤولين معروفين من القوى السياسية اليسارية في دول مثل اليونان والبرتغال وفي أطياف من اليسار الفرنسي عن الكلام الرسمي والإعلامي المهيمن.

ما هي الأسباب أو الدوافع لهذا التماهي الأوروبي الأميركي؟

ز.م.: لتفسير ذلك يمكن التوقف عند ثلاث مسائل. الأولى ترتبط بحرب أوكرانيا وباكتشاف أوروبا مدى حاجتها إلى أميركا في ما يخص أمنها القاري وقدرتها على التعامل مع متغيرات وتحديات عسكرية كتلك التي تفرضها عليها روسيا. فقد بدت أوروبا منكشفة الى حدّ بعيد أمام التحديات الروسية من دون دعم أميركي.

المسألة الثانية ترتبط بصعود العنصرية تجاه المسلمين بموازاة صعود تيارات أقصى اليمين أو اليمين المتطرف في معظم دول أوروبا الغربية، وليس في وسط أوروبا أو شرقها فحسب (المجر وبولونيا وسلوفاكيا)، ووصول البعض منها إلى أبواب السلطة. ففي فرنسا، وصلت مارين لوبين للمرة الثانية إلى الدور الثاني في الانتخابات الرئاسية. في ألمانيا، تقدّم الخطاب اليميني المتطرف، ولو لم يبلغ السلطة، وكذلك الأمر في النمسا. وفي الدول الاسكندينافية، تقدم اليمين المتطرف على نحو مفاجئ بعد عقود من سيادة الاشتراكية الديمقراطية أو الديمقراطية الاجتماعية ويشارك في السلطة في السويد. وتقدم أيضاً في هولندا وبلجيكا، من دون أن ننسى وصول تحالفه الى السلطة في إيطاليا.

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن هذا اليمين قدّم العداء للإسلام والمسلمين والمهاجرين من أفريقيا على معاداة السامية، على الرغم من أن تراثه المعادي للسامية ما زال يغذّي مخيّلة بعض قواعده الاجتماعية. فبالنسبة إلى كثيرين من قادته يشكّل تحطيم الإسرائيليين مجتمعاً فلسطينياً أو مجتمعاً مسلماً وطرد أبنائه أمراً نموذجياً يمكن يوماً الاقتداء به في سبل التعامل مع "سكان أصليين" من مستعمرات سابقة باتوا في قلب أوروبا، مهاجرين مقيمين أو حاملي جنسية يمثّلون ثقلاً ديموغرافياً "مقلقاً".

المسألة الثالثة التي أدت برأيي إلى التبدل في السلوك السياسي الأوروبي تجاه المنطقة تستند الى الجهد الإعلامي الذي بذله الإسرائيليون من جهة والمؤيدون لهم من جهة ثانية في إيجاد تماهٍ كامل بين عملية حركة "حماس" في 7 تشرين الأول 2023، لا سيّما في الشقّ الذي استهدف المدنيين خلال تنفيذها (في الحفلة الموسيقية وفي الكيبوتزين المستهدفين) وبين عمليات 11 أيلول 2001 في نيويورك و13 تشرين الثاني 2015 في باريس. هذه المحاكاة، بمعزل عن اختلاف الظروف والملابسات، نجحت في دفع كثيرين للظنّ والقول إن من نفّذوا العملية في "جدار غزة" يُشبهون تماماً من نفذوا العمليات ضدنا في مدننا. وبالتالي، فإن عدونا مشترك، وهو تيارات الإسلام السياسي أو الإسلام الجهادي الحاضرة أيضاً بيننا.

وأختم هنا، بأن ما فاقم ظهور كل ذلك هو وسائل إعلام مرئية من التي تبث على مدار اليوم أخباراً وحوارات يشارك فيها أشخاص ليسوا متخصصين في شؤون الشرق الأوسط والصراع الفلسطيني- الإسرائيلي أو الكفاح الفلسطيني، ويقدّمون مقاربات أمنية لا تخلو من اللغة العنصرية التي تقول إننا أمام ما يسمونه الإرهاب الإسلامي المنظم في مواجهة الحضارة الغربية. وهذا نمط من المقاربات حين يعتمده شخص غير متخصص أو هامشي يمر من دون أن يثير ضجة كبيرة، لكن تكراره بشكل يومي وأكثر من مرة يجعله جزءاً من المتداول، وكأنه بداهة، ويساهم في بناء رأي عام باتت الاخبار بالنسبة له استهلاكاً سريعاً لا يستند الى القراءة بل يكتفي ببعض الكلمات والصور المكرّرة هنا أو هناك.

لكن ثمة من كان يقول إن العاملين والعاملات في وزارات الخارجية في الكثير من الدول الغربية، لا سيّما من الجيل الجديد المتحرّر من أعباء قديمة ترتبط بمجازر الحرب العالمية الثانية بحق اليهود أو بالمخيّلات الكولونيالية، باتوا أكثر توازناً تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وأثبت التصويت في اجتماعات للجمعية العامة للأمم المتحدة في السنوات الماضية حول الاعتراف بفلسطين أو بعضويّتها في هيئات أممية أو لجهة إدانة الاحتلال والاستيطان أن معظم الدول الغربية ما عدا أميركا وكندا وتشيكيا والمجر صارت إما تصوّت لصالح الفلسطينيين أو تمتنع عن التصويت. هل في آليات اتخاذ القرار هناك عناصر تُضاف الى ما قلته حول أسباب التماهي الأوروبي الأميركي في الموقف ممّا يجري؟

ز.م.: نعم من الصحيح القول إنه كان لافتاً في السنوات العشر الأخيرة تحسّن المواقف الدولية تجاه القضية الفلسطينية رغم ضعف التمثيل الفلسطيني وانقسامه بين السلطة و"حماس". وصحيح أيضاً القول إن جيلاً جديداً من الديبلوماسيين والعاملين في وزارات الخارجية في العديد من الدول الغربية يبدو أكثر توازناً في مواقفه تجاه فلسطين من مواقف الجيل السابق. لكن الصحيح أيضاً هو أن قناعة ترسّخت في السنوات العشر الأخيرة لدى الإدارات الغربية مفادها أن القضية الفلسطينية لم تعد مركزية عربياً، وأن التطبيع بين عدد من الدول العربية وإسرائيل (البحرين والإمارات ثم المغرب والسودان، إضافة الى التواصل السعودي مع إسرائيل ووجود اتفاقات سابقة بين مصر والأردن وإسرائيل) هي إثبات على ذلك، وأن الصراع الفعلي في المنطقة صار بين دول الخليج العربي وإيران. فإذا بهذه القناعة الموهومة تصطدم بحقائق مروّعة اليوم تُثبت أن لا سلام في المنطقة ولا استقرار من دول حلّ يضمن حداً مقبولاً من الحقوق الفلسطينية.

وفي ما يخصّ آليات اتخاذ القرار، يبدو من المشهدين الأميركي والفرنسي مثلاً، أن البيت الأبيض وقصر الإليزيه هما الأكثر حسماً لحظة اتخاذ القرارات من وزارتي الخارجية في البلدين. وهذا إذ كان مألوفاً في الحالة الأميركية، إلا أنه في الحالة الفرنسية يبدو منحى آخذاً في التزايد منذ عهد نيكولا ساركوزي بين العامين 2007 و2012. وهذا يعني خروج آليات اتخاذ القرار من مسارات ديبلوماسية تغذّيها خبرات المعنيين في وزارة الخارجية وآراء الديبلوماسيين والتشاور بينهم وبين الرئيس حول الموقف ومصطلحاته، وتحوّلها الى مادة يناقشها ويقرّها محيط الرئيس المباشر، المشكّل من مستشاريه ومن أفراد نافذين من أصدقائه أو من مجموعات ضغط أو مراكز تفكير واستطلاع رأي من خارج جسم الدولة. وهذا ما يسمّيه البعض بخصخصة قرارات السياسة الخارجية. وهذا أيضاً ما يفسّر بروز أخبار عن استياء ومراسلات في أوساط ديبلوماسية ولدى موظّفين في الخارجيّتين الأميركية والفرنسية يرون في مواقف بايدن وماكرون انحيازاً أعمى لحكومة نتنياهو.

هل يمكن أن تعرض لنا خريطة توزّع القوى السياسية الغربية إزاء الحدث؟

ز.م.: بالنسبة لأميركا، يمكن القول إن الفرز الحقيقي ليس مستنداً الى القسمة التقليدية بين جمهوريين وديمقراطيين. فأولاً ثمة تمايزات داخل كل حزب، وإن كانت الترامبية الشديدة التأييد لإسرائيل قد جرفت الجمهوريين نحو مواقف أكثر تشدّداً أحياناً من مواقف السياسيين الإسرائيليين أنفسهم. وفي أوساط الديمقراطيين، ثمة جناح يساري مدعوم من الناشطين الأصغر سناً، يعترض على الأداء الرسمي لقادة الحزب ولإدارة بايدن في تأييدهم للحكومة الإسرائيلية. لكنه يبقى أقلّوياً. الأكثر وضوحاً في مدن أميركا هو بروز جيل من الطلاب الجامعيين والأكاديميين المستنكرين للخطاب الرسمي والمناصرين لحقوق الفلسطينيين، وبروز تقاطعات بين حركات اجتماعية مناهضة للعنصرية وللتسلّح وأُخرى من خلفيات يهودية تقدّمية أو من سياسيين وأكاديميين من أصول عربية ترفض الموقف الأميركي المغطّي للمذابح التي ترتكبها إسرائيل وتنادي بوقف النار وبرفع الحصار عن غزة.

يضاف الى ذلك أن مواقف المنظمات الحقوقية الأميركية والأممية الموجودة في أميركا بمجمله حاد الانتقاد للسياسات والجرائم الإسرائيلية وله أثر في تكوين وعي قانوني لدى نخب جامعية وبحثية تنادي به كمرجع للتعامل مع الأحداث. على أن تأثير كل ذلك على آليات اتخاذ القرار ما زال محدوداً.

وفي أوروبا، تبدّلت بعض معالم الخريطة السياسية. فإذا تحدثنا عن بلد مثل فرنسا كانت له خصوصية في العلاقة مع العالم العربي في العقود الخمسة الماضية، نقول إننا أمام خمس عائلات سياسية كبرى، تسري قسمتها الى حدّ بعيد على بلدان أوروبا الغربية (في ما عدا بريطانيا وألمانيا).

هناك أقصى اليمين أو اليمين المتطرف الذي صار واسع الحضور تغذيه أحيانا رؤوس مال تعتبر أنها في معركة حضارية مع الإسلام والمسلمين الوافدين إلى أوروبا. ومراجع هذا اليمين المتطرف مختلفة، لكن نقطة التقاطع بين تياراته هي العداء للهجرة، والعداء للمؤسسات الدولية الكبرى، بما فيها الاتحاد الأوروبي نفسه، مع تحميله المسؤولية عن الأزمات. وبين أطيافه ثمّة من وفد من مجموعات فاشية أو نيونازية، وثمة من التحق به قادماً من اليمين التقليدي أو من بيئات ريفية كاثوليكية محافظة، وثمة من وجد فيه تنفيساً عن حقده وغضبه على النخب الباريسية وما يسمّيه "الاستبلاشمنت". وغالبية هؤلاء، إن لم نقل جميعهم، يؤيّدون الآن إسرائيل، لكنهم في مفارقاتهم وتناقضاتهم يحافظون أحياناً على نظريات تآمر ما زال جوهرها معادياً للسامية، وينتقدون أميركا الملوّنة والمعولمة ويفضّلون عليها في ما يبوحون به أو ما يُضمرونه روسيا الأكثر "بياضاً" و"مسيحية".

العائلة الثانية هي ما يُسمى اليمين التقليدي (أو اليمين الجمهوري في الحالة الفرنسية). وهو يمين حَكَمَ لفترات طويلة، هواجسه بشكل خاص اقتصادية، وصلاته وثيقة بالمؤسسات الدولية وبمؤسسات الاتحاد الأوروبي، وخطابه مناصر لإسرائيل انطلاقاً من ثقافة ما زالت الكولونيالية ركناً من أركانها والتحالف مع أميركا ضرورة حيوية فيها والهوية "الغربية" رافعة لها. واليمين المذكور يخشى فقدان المزيد من الحضور لصالح اليمين المتطرّف فيزايد أحياناً عليه في قضايا الهجرة والإسلاموفوبيا.

العائلة السياسية الثالثة هي تلك المتحدرة ممن يطلقون على أنفسهم لقب الوسط، أي أنها مع حرية رؤوس المال والاستثمار، لكن مع عقلنتها بخيارات وسياسات اجتماعية. وتتميز هذه العائلة عن أطياف اليمين بمواقف تحاذر المنحى العنصري ولا تخضع لابتزاز اليمين المتطرّف، وهي في المقابل تفترق عن اليسار في القراءات الاقتصادية وفي مسائل مجتمعية ترتبط بالمواقف النسوية والبيئية. وهي موجودة في أكثر من بلد أوروبي، وممثلة في البرلمانات، وموقفها اليوم من الأكثر توازناً تجاه الحرب في غزة ويذكّر الناطقون باسمها بضرورة الوصول الى اتفاق سياسي والى نهاية للاحتلال، لأن "العنف ليس حلاً في ذاته".

العائلة الرابعة هي عائلة الإشتراكيين والاشتراكيين الديمقراطيين، التي باتت تصنف في خانة يسار الوسط، وفقدت كثيراً من بريقها في العقود الماضية لكنّها ما زالت تمتلك قدرة تمثيل في الانتخابات المناطقية والتشريعية. ولهذه العائلة إرث في الحكم أو في التأثير على التشريعات، ومنها انبثقت نخب حَكمت لفترات طويلة. وهذه العائلة في معظمها، في هذه المرحلة، قريبة إلى الموقف الأميركي في دعم إسرائيل، وفي أوساطها تيارات كانت تاريخيّاً قريبة من الصهيونية الاشتراكية أو التيارات الصهيونية اليسارية مثل حزب العمل. ويذكّر موقف هذه الأطياف بأن هناك ضرورة لحل سياسي، وبأن العنف ليس الإجابة الوحيدة. ولكنها تقول ذلك بعد تكرار لازمة "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، وتتجنّب انتقاد فظائعها وجرائم حربها.

العائلة الخامسة من الأطياف السياسية هي التي صار يُصطلح على تسميتها بأقصى اليسار، ولو أن فيها تمايزات كثيرة. فهناك في صفوفها تيارات وافدة من أحزاب شيوعية، أو أحزاب شيوعية لم تغير اسمها، وفيها أيضاً من تركوا أحزابا اشتراكية لاعتبارهم أن هذه الأحزاب نحت نحو الوسط أو اليمين، وفيها مجموعات تروتسكية، وفيها حركات اجتماعية صاعدة، تعتبر قضايا الحريات الفردية والتسامح ومعاداة العنصرية والمسائل النسوية والبيئية أولويات في عالم اليوم، وتطلّ من خلالها على باقي القضايا بما في ذلك الاقتصاد والاجتماع السياسي. يُضاف إلى هذه المكونات حركات منبثقة من حملات نقابية أو مطلبية تشكلت مع الوقت. وتتميّز هذه المكوّنات جميعها، بمعزل عن أحجام التمثيل الشعبي (الذي يبلغ حدوداً واسعة في حالة "فرنسا العصية" أو "بوديموس" الإسبانية وغيرهما)، بالنشاط والحيوية والحضور في تنظيم الأنشطة الثقافية والمواطنية. وهي برزت بمواقفها الرافضة لتأييد إسرائيل مذكّرة بارتكابها جرائم ضد الإنسانية وأبدت مناصرة من دون لبس لحقوق للفلسطينيين. لكنها في المقابل اختلفت بشأن الموقف المصطلحي من "حماس". البعض أطلق عبارة الإرهاب على عمليتها الأخيرة أو وصمها بالتنظيم الإرهابي، والبعض الآخر رفض المصطلح ولَو أنه أدان أيضاً قتل المدنيين الإسرائيليين واعتبره جريمة حرب.

وعلى مسافة وثيقة من مكوّنات هذه العائلة الخامسة نجد "الخضر" أو البيئيين المشاركين في الدعوة لتظاهرات تضامن فرنسية وأوروبية اندمجت في فعالياتها أوساط اجتماعية متحدّرة من الهجرات العربية والمغاربية والأفريقية، أو من المواطنين المسلمين في أكثر من دولة.

هل نحن إزاء مشهد جديد في العلاقات الدولية؟ وكيف تبدو التحالفات اليوم؟

يمكن لواحدنا أن يراقب تبدلاً على صعيد العلاقات الدولية والتحولات والتموضعات منذ ما قبل حرب أوكرانيا، ولكن ذلك ترسخ خلال تلك الحرب، وبعض ملامحه نراها مجدداً الآن. بمعنى أن أميركا ودول أوروبا الغربية، ونتيجة عوامل كثيرة قديمة وجديدة ترتبط بازدواجية المعايير وبأولويات إقتصادية وباستغلال ثروات وطاقة، لم تعد قادرة على فرض اصطفافات سياسية في أميركا الجنوبية وأفريقيا وآسيا على النحو الذي تريده، ولم تعد المسألة الديمقراطية تكفي لإبقاء بريقها ووعودها بحياة أفضل وبتعاون إقتصادي أمثل. وقد مكّن ذلك الصين وروسيا من إقناع دول أو منظومات إقليمية من جنوب المعمورة بالتحالف معهما لمواجهة الهيمنة الغربية، ولتقديم بدائل عن تلك الهيمنة. وهذا بدا واضحاً في التصويت في الأمم المتحدة على القرارات الخاصة بأوكرانيا، وبدا أيضاً من المواقف تجاه فرنسا والأوروبيين في أكثر من دولة أفريقية، وهو الآن لا يأخذ الشكل نفسه في ما يخص القضية الفلسطينية، لكنه يُظهر أن الدعم الغربي اللامحدود لإسرائيل يواجَه إما بنوع من الدعم للفلسطينيين أو بعدم مجاراة للعواصم الغربية في ما تريده.

وما يمكن أن يكون مضراً للفلسطينيين في هذه التبدّلات، على الرغم من أهمية الحصول على أي دعم ممكن، هو أن تبدو قضيتهم وكأنها ملتصقة بمعسكر أو بتحالفات تقودها دول مثل الصين وروسيا لا تختلف في سياساتها الخارجية وفي تجاوزاتها القانون الدولي وسعيها إلى الهيمنة عن أميركا ودول الغرب، لا بل تتخطاها في تعاملها العنيف مع الخصوم، ناهيك بالفارق في ما يتعلّق بالحريّات الداخلية، إذ ما زالت الأصوات الاعتراضية قائمة وممكنة في الغرب، في حين أنها مقموعة حدّ الإعدام والمحاصرة والنفي في الحالتين الروسية والصينية.

هناك إذاً تموضع جديد لعدد من الفاعلين في العلاقات الدولية، وهناك خريطة جديدة تُرسم، ولو إنها ليست نهائية، لأن الأمور يمكن أن تختلط أحياناً وأن تتناقض المواقف تجاهها أو أن تتداخل.

هل تعتبر أن المواقف الغربية الداعمة لإسرائيل وغير العابئة بالجرائم التي ترتكبها في غزة وفي الضفة الغربية والقدس الشرقية ستؤثر سلباً في العلاقات (غير الدبلوماسية أو السياسية الرسمية) بين الغرب والعرب والمسلمين؟ وماذا عن أصوات المثقفين تجاه ما يريد البعض تصويره بصراع حضاري؟

ز.م.: ثمة قسمة متجددة الآن في الخطاب المهيمن، وتتحدث عن حضارتين تتواجهان بما يذكر بما جرى بعد 11 أيلول 2001 حين قال جورج بوش الإبن بما معناه "إما نحن وإما هم" و"من ليس معنا فهو مع الإرهاب"، وحين قسّم أسامة بن لادن العالم الى فسطاطين.

تنتمي هذه القسمة بمعادلتيها إلى فكرة أن الحضارات متنابذة وأن الكتل البشرية في كل "حضارة" تتماهى ولا فوارق ثقافية واجتماعية وسياسية داخل مكوّناتها، أي أنها تدمج البشر ضمن كتل متراصة صمّاء تُظهرهم في مواقع متنابذة ومتضادة تلقائياً، وكأن الهويات والثقافات هي ما يسبب ذلك من دون اعتبار أن الهويّات مركّبة والثقافات متحركة وأن الأمور تتبدل وتتغير ولا يوجد ماهيات تحسم الموضوع أو تفرض نفسها على الناس بشكل دائم وتلقائي.

ويُخشى أن هذا الخطاب يتقدم من جديد في ظل الحرب الإسرائيلية المدعومة غربياً على غزة، بعدما انحسر قليلاً عقب كوارث حربي أفغانستان والعراق، وعقب الثورات العربية التي تسبّبت هزيمتها في موجتيها وفي جميع ساحاتها، بعودة الحديث عن استحالة الديمقراطية في مناطق معينة وربط الأمر اعتباطاً وجهلاً بهويات "حضارية"، بعيداً عن العوامل السياسية والاقتصادية والقانونية والثقافية وعن العنف والتسلّط والتجارب التاريخية ودروسها. وهو الآن يُعطى كمثال على انعدام امكانيات الوصول إلى حلول في الكثير من الأزمات والصراعات، بما في ذلك ما يرتبط بالمجتمعات الغربية نفسها وبالهجرات إليها وباليمين المتطرف الذي يريد أن يقول إن المهاجرين أو اللاجئين لا يمكن أن يندمجوا في سياقات مختلفة عما اعتادوا عليه بسبب ثقافتهم أو بسبب انتمائهم إلى هذه أو تلك من الديانات.

على أن وهن هذا الخطاب التبسيطي يقبع أيضاً في ضياعه "الحضاري" تجاه روسيا مثلاً، المسيحية والبيضاء، وتجاه الصين بنموذجها السياسي والثقافي العميق الاختلاف، إضافة الى تجاهله كمّ التناقضات القيمية والسياسية في المجتمعات الغربية ذاتها التي لا تقل في بعض المجالات عن تلك الموجودة في المجتمعات المسماة إسلامية والمعدّة حضارة مضادة أو "همجية" مخيفة.

ويمكن بالمناسبة لزائر للمتاحف المخصصة لتاريخ الهجرات في أوروبا أن يرى مدى تشابه مصطلحات اليوم مع تلك التي اعتُمدت في ثلاثينيات القرن الماضي في فرنسا مثلاً، والتي استهدفت يومها تحقيراً وعنصريةً الإيطاليين والإسبان والبرتغاليين والبولنديين وتحدّثت عنهم وعن اليهود كما يتحدّث عتاة اليمين المتطرّف اليوم عن العرب والأفارقة المسلمين.

ولا شكّ أن بعض القوى الإسلامية وبعض الأنظمة التسلّطية في العالمين العربي والإسلامي، على اختلاف خصائصها وسياساتها، تشحذ الهمم بدورها من أجل أن تسود القسمة المذكورة والمعطى الصدامي بين الحضارات. فهذا يُعينها على توظيف خطاب المظلومية للاستقطاب ولتجديد نفسها، ويُعينها أيضاً على الهروب من تحدّيات سياسية واقتصادية وثقافية تفشل في مواجهتها نحو تبسيطية مضادة لتبسيطية المقلب الآخر. وأظن الأمر سيدوم لفترة وستكون أضراره كبيرة.

لكن كل ما ورد يجب ألا يحجب وجود أصوات وديناميات ترفض القسمة المذكورة ومنطقها، يطلقها مثقفون هنا وهناك، وهذا دورهم، وتتحدث عن الأخوّة وعن التضامن والتكافل والمساواة وكونية القيم ووحدة المعايير. والأصوات والديناميات هذه سائدة مثلاً في الأوساط الجامعية والبحثية والحقوقية، لكنها غير مؤثّرة كفاية بعد على التمثيل السياسي في البلدان التي تُتيحه أو على الثقافة السياسية في البلدان المُقفلة سبل التمثيل فيها.

إضافة إلى سطوة العنف على العلاقات الدولية في الآونة الأخيرة، هناك إمعان في ازدواجية المعايير تجاه ساحات هذا العنف. كيف تفسّر ذلك؟

ز.م.: هناك بالفعل عودة لمشهدية الفظاعة أو للعنف المهول في صراعات عالم اليوم. بمعنى أننا بعد فاصلين من الوحشية عرفناهما بُعَيد نهاية الحرب الباردة، في بداية التسعينات مع الحرب اليوغوسلافية والمجازر بين الهوتو والتوتسي، وفي بداية الألفية الثانية بعد 11 أيلول وحربي أفغانستان والعراق وحرب الشيشان، مررنا حتى العام 2012 بمرحلة بدا فيها أن كمّ العنف تراجع وأن العديد من الصراعات المتواصلة تقلّص مدى القتل المفرط فيها، إلى أن بلغنا مستوى من الفظاعة ربما غير مسبوق منذ عقود طويلة في الحرب السورية. تلا ذلك حروب شديدة الأذية، في اليمن وليبيا ثم في السودان، وصولاً الى حرب أوكرانيا الدائرة منذ قرابة العامين والى المجازر المرتكبة بحق أقّليات مسلمة في بورما أو القمع الإجرامي المتواصل للإيغور في الصين.

وها نحن نصل اليوم الى ذروة فتك الأسلحة التقليدية المتطوّرة والأشد تدميراً في التاريخ ببيوت المدنيين الفلسطينيين وأحيائهم في غزة.

ولا شكّ أن ازدواجية المعايير برزت على الدوام تجاه هذه الأحداث وفظاعاتها، بما يُشير الى مأزومية النظام العالمي وانعكاس ذلك شللاً في أداء الأمم المتحدة والمؤسسات الحقوقية تجاه حالات الحروب والنزاعات حيث تُنتهك الاتفاقات المُبرمة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ويُداس عليها من قبل الأطراف القوية أو الحاصلة على غطاء من الأقوياء. وليس أكثر مِن رصدِ استخدام أميركا وروسيا والصين لحق النقض الفيتو دلالةً على معنى التعطيل لمجلس الأمن وتداعياته، إذ صار غالباً ومداولةً لمنع إدانة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية ومنع كل تدخّل أممي تجاهها. ونتيجة ذلك: إفلات المرتكبين من العقاب وحصانتهم بما يعزّز ثقافة الانتهاك ويزيد من الغضب والمظلوميات المتفجرة.

وهذا يدفع للقول إنه من دون التفكير جدياً في إصلاح نظام مجلس الأمن والنظام الدولي عامة، لن نصل الى استقرار أو تراجع لفظاعة العنف المتنقّل الذي نعيش واحتمالات تكراره. وهذا طبعاً شأن معقّد وصعب تفرضه موازين قوى هي غير متوفرة لا راهناً ولا في المدى المنظور، ولو أن أوساطاً حقوقية وأكاديمية من مختلف مناطق العالم صارت تطرحه باستمرار.

ختاماً، ما هي السمات التي تتوقع أن تأخذها القضية الفلسطينية في ظل هذا المشهد الإقليمي والعالمي؟ هل ترى أن هناك محاولة تصفية للقضية الفلسطينية ونزع الصفة التحررية عنها، مقابل أسلمتها ودفعها إلى خطاب العنف؟ وما مسؤولية "حماس" والفلسطينيين والعرب اليوم تجاه كلّ هذا؟

ز.م.: برأيي أننا أمام مرحلة شديدة الصعوبة والتعقيد، ويصعب التعويل فيها على أطراف أو دول أو تحالفات محدّدة للعب إدوار "إنقاذية". من ناحية، أعادت عملية "حماس" في 7 تشرين الأول القضية الفلسطينية الى محور النقاشات والمفاوضات الإقليمية والدولية بعد تغييب تصفوي لها منذ ما سمّي اتفاقات "ابراهام". ومن ناحية ثانية، أفقدت العملية القضية الفلسطينية دعماً في بعض أوساط الرأي العام الغربي (غير العنصري وغير الداعم أصلاً لإسرائيل) بسبب صور المدنيين الإسرائيليين المقتولين، ولَو أن الهمجية الإسرائيلية والمجازر المُرتكبة في غزة بدأت أيضاً تفرض على الإعلام تغطيةً لها بما سيؤثّر مع الوقت في الرأي العام إياه. ومن ناحية ثالثة، لا أفق سياسياً واضحاً يمكن الحديث عنه في ظل موازين القوى وفي ظلّ أجندات دولية (من بحر الصين الى أوكرانيا، ومن الاقتصاد الى الأمن) وعربية (من التطبيع و"الاستقرار القمعي" الى الصراع مع إيران) اقتحمتها القضية الفلسطينية منذ أسابيع على نحو مفاجئ وغير مرغوب فيه.

في نفس الوقت، يمكن أن تُفضي الحرب التدميرية في غزة وانفلات عنف المستوطنين المدعومين من الجيش ومن وزراء فاشيين في حكومة نتنياهو (بن غفير وسموتريش تحديداً) في الضفة الغربية والقدس، الى تزايد الدعوات الإقليمية والدولية لترتيبات سياسية توقف العمليات العسكرية والقصف، وتحول دون التهجير الفلسطيني الكبير المقصود إسرائيلياً (إن ظلّت مصر رافضة له)، وتدعو لرفع جزئي للحصار وإدارة جديدة لمعبر رفح، والى أدوار أردنية ومصرية ووساطات قطرية وتركية إضافية لتبادل أسرى ورهائن، وربما الى تبدّلات في الخريطة السياسية الإسرائيلية يصعب على نتنياهو البقاء متسيّداً فيها.

على أن الأحوال السياسية الفلسطينية بعد كل ذلك لن تكون بالضرورة في وضع أفضل مما هي عليه اليوم. فلا "حماس" ولا "السلطة الوطنية" سيقدران على ادّعاء تمثيلية أو مشروعية، وليس من المتوقّع أن تُفرج إسرائيل مثلاً عن قادة مثل مروان البرغوتي أو سواه ممّن يملكون مصداقية كان يمكن الركون إليها وتعزيزها لقيادة الفلسطينيين.

وهذا يعني أن لا حلول سياسية في المدى المنظور أبعد من تجميد الفظائع المرتكبة اليوم في غزة. وهذا يطرح بالتالي العديد من التحدّيات، ما يمكنني أن أدلي به حولها، ومن منطلق إقامتي في "الغرب" (وانتمائي بمعنى ما إليه)، يرتبط بالمساهمة في التصدّي إعلامياً لنزع الأنسنة عن الفلسطينيين الذي بات مرادفاً للعنصرية، والسعي للعمل على إعادة بناء خطاب تحرّري كان جيل من المثقفين والقادة السياسيين الفلسطينيين قد نجحوا الى حدّ بعيد في إنجازه، وربطه بالمسائل الحقوقية وبالقانون الدولي وفق معايير لا تقبل بأي ازدواجية، خاصة في ما يتعلّق بربط مقاومة الاحتلال بالكفاح ضد الاستبداد وأنظمته. والأهم ربما، المشاركة في بناء تحالفات مع قوى سياسية وحركات اجتماعية ونواد طلابية ونقابات وحملات معادية للعنصرية، بعيداً عن فخّ صراع الحضارات الذي تحدّثنا عنه، وبعيداً أيضاً عن الهويات الدينية التي تبقى حقاً فردياً لا مساومة عليه، ولكن لا مشروعية أو مصلحة أيضاً في تحويله الى منطلق فرز أو صياغةٍ لمشاريع لا تنوّع ولا اختلاف ولا رحابة وحرّية فكرية ومسلكية في طيّاتها.