في 9 كانون الثاني/ديسمبر 2013، اختطفت مجموعة مسلّحة المحامية والكاتبة رزان زيتونة والناشط السياسي وائل حمادة (زوج رزان) والمحامي والشاعر ناظم حمادي، في مدينة دوما في غوطة دمشق الشرقية. واختطفت معهم سميرة الخليل، السجينة السياسية السابقة والعاملة في دوما الى جانب رزان في التوثيق الحقوقي وفي برامج دعم النساء في تلك المنطقة المنكوبة والمحاصرة.
لم يكن عمل الاختطافِ هذا بالحدث التراجيدي "العادي" في سياق أحداث تراجيدية كثيرة تراكمت وتزاحمت وأنست واحدتها سابقاتها في سنوات الثورة ثم الحرب السورية العشر الأخيرة. فموقع الخطف والهويّة المرجّحة للقائمين به وما يمثّله المخطوفون الأربعة جسّدت جمعيها جوانب استثنائية الفظاعة في مأساة سوريا.
ذلك أن المخطوفين، إضافة الى كونهم من الوجوه الأبهى لثورة السوريين المغدورة ضد نظام الأسد، لجأوا الى دوما المتمرّدة و"المحرّرة" من النظام آنذاك بعد فترة اختباء داخل دمشق إثر اندلاع الثورة في آذار/مارس 2011. وعملوا فيها ومع بعض ناسها لبناء تجربة مدنية مناقضة لتجربة الطغيان والعنف الأسدية، ودفعوا في النهاية ثمن مواقفهم ونزاهتهم وشجاعتهم تغييباً شنيعاً على أيدي من آمنوهم حياتهم بدايةً، ورفضوا في وقت لاحق ممارساتهم وخنقهم للحرّيات الوليدة أو المُنتزعة.
وسميرة الخليل، المتحدّرة من عائلية علوية، سبق أن سجنها نظام الأسد الأب بين العامين 1987 و1991 لانتسابها لحزب العمل الشيوعي، وأمضت بعضاً من أشهر السجن الطويل في معتقل النساء في دوما إياها. وهي وثّقت خلال مكوثها الثاني في المدينة، في عهد الأسد الإبن هذه المرّة، يوميات الناس العاديّين وأخبار حصارهم، وكان يُفترض أن تخرج من الغوطة لملاقاة زوجها، الكاتب ياسين الحاج صالح، صاحب رسائل هذا الكتاب. فالأخير، طالب الطب المسجون ستة عشر عاماً (بين العامين 1980 و1996) لانتمائه للحزب الشيوعي – المكتب السياسي، المُكمل دراسته الطبية بعد تحريره، والمتحوّل عنها نحو الكتابة السياسية والفكرية التي جعلته واحداً من أبرز مثقّفي سوريا، أقام وعمل في دوما أيضاً برفقة سميرة ورزان ووائل وناظم، قادماً إليها معهم من دمشق بعد عامٍ ونيّف من التخفّي التالي لقيام الثورة. وإذ قرّر الخروج من الغوطة المحاصرة عبر طريق طويل شديد الخطورة والوعورة نحو مسقط رأسه، مدينة الرقة الشمالية، الخارجة عن السيطرة الأسدية في ربيع العام 2013، بلغ وجهته لحظة ظهور تنظيم داعش (الوافد من العراق)، الذي ابتلع المدينة بعد حين، وابتلع معها أخ ياسين الأصغر، فراس، بعد أن اعتقل ثم أطلق أخاً ثانياً له هو أحمد. بهذا، تعقّد خروج سميرة للّحاق به، واضطر هو الى خروج جديد، الى تركيا، منفاه الأول، حيث صار المرتجى أن تلاقيه سميرة هناك ما أن يتمّ تأمين "تهريبها" من الحصار نحو لبنان، ثم بمعونة الأصحاب الى إسطنبول.
على أن حصار الغوطة اشتدّ. والنظام هاجمها بالأسلحة الكيماوية في 21 آب/أغسطس 2013 موقعاً أكثر من 1500 قتيل من أهلها في ليلة واحدة. وسميرة وجدت نفسها غير قادرة على ترك نشاطها وناسها في مرحلة من أخطر مراحل الصراع السوري. ومواجهات رزان زيتونة ورفاقها في "مركز توثيق الانتهاكات" الذي أسّسته تصاعدت مع "جيش الإسلام"، وهو تنظيم سلفي مقاتل أخذ تدريجياً بإحكام قبضته على دوما وبعض مدن الغوطة كاماً الأفواه وفارضاً استبداده، متمثّلاً بالنظام الأسدي الذي يقاتله ومستلهماً من قمعِه ممارساتٍ رافقت تعرّج مسارات الثورة نفسها وتحوّلها الى حرب ضروس. حربٌ لامست حدّ حملات الإبادة المنظّمة من جهة النظام وحلفائه الإيرانييين ثم الروس، وأدّت مع الوقت الى تصدّع الإطار الوطني للصراع، وتحوّل القوى المسلّحة المعارضة للنظام الى ميليشيات متنابذة ومتعدّدة الولاءات الخارجية (لتركيا وقطر والسعودية)، مع تقدّم داخلها للقوى الإسلامية الأفضل تسليحاً وتنظيماً وانضباطاً. ومن ضمن الأخيرة بالطبع، "جيش الإسلام"، الذي يُرجّح أن عناصر منه اختطفت رزان ووائل وناظم وسميرة بعد أن هدّدتهم في السابق، وبعد أن اختطفت ناشطين سياسيين في الغوطة واغتالت آخرين.
ومنذ ذلك الاختطاف المشؤوم قبل سبع سنوات، مرّت الأيام ومعها الإشاعات، وطحن الوقت آمالاً وأناساً، وتبدّلت سوريا وتوحّش القتلة فوق أرضها وخرج الملايين من أبنائها وبناتها نحو المنافي القريبة والبعيدة وتاه أكثرهم في مساحات وصعوبات عيشٍ وانتظار.
ولا شك أن ياسيناً، الذي بذل وأصدقاؤه ما بوسعهم لتقصّي الحقائق وفهم تفاصيل ما جرى لأحبّتهم منذ اختطافهم، خاصة بعد سقوط الغوطة بقبضة النظام وحلفائه وتهجير معظم من تبقّى حيّاً من سكّانها نحو الشمال السوري العام 2018، وصل الى حائط مسدود. وبدا له أن صمتاً ثقيلاً فُرض على المسألة برمّتها وعلى مصير سميرة ورزان ووائل وناظم الذي ما زال الى الآن مجهولاً. ولعلّه حاول التعويض عن فقدانه المرير، وعن العجز أمام المصائب التي حلّت بالسوريين، بفِعل الكتابة وما فيه من بوحٍ ورصد وتحليل ومن تشارك بأسئلة وأفكار وانفعالات، وبما فيه أيضاً من إحياء لقضايا وأشخاص ومن صدّ للنسيان وللموت البطيء.
لكلّ هذا، تشكّل رسائله الى سميرة، التي كتبها على مراحل
رافقت أيامه في تركيا ثم في منفاه الثاني ألمانيا، والتي جمعتها الشاعرة والكاتبة سعاد
لعبيز وترجمتها بأمانة وجمالية، أرشيفاً حياً، أو تأريخاً مباشراً لأحداثٍ جٍسام
يتداخل فيها الحميميّ بالعام والشخصي بالجماعي، فيُنتجان سيراً لبلدٍ مهشّم
ولأفراد وناس تبعثروا في جغرافيّته أو خرجوا منها.
وتتوسّل الرسائل تمسّكاً بحياةٍ مشتركة متعدّدة الأوجه أجّلها تغييب سميرة القسري، وجمّدها في زمان ومكان يبتعدان أكثر كلّ يوم، فتحاول الحدّ من هذا الابتعاد وفرض إيقاع مضاد يستحضر المُغيّبة ليشهّدها على ما فاتها، وليُعيرها ذاكرةً حجب عنها الخطفُ حقّ تكوينها، كي تكون يوماً جسر عبور لها من الغياب الى العالم الذي تبدّلت أحواله وابتلعت تحوّلاتُه كثرةً من معالِم ذاكرتها السابقة. والرسائل إذ تفعل ذلك لا تكتفي بكرَمٍ تجاه المخاطَبة الغالية، بل تقدّم للقرّاء والقارئات أيضاً شهادات شديدة الغنى، كثيفة المعنى حول الحياة والمنفى والكتابة وحول الحبّ والأمل والفقدان، وحول أحوال سوريا وعوالمها، مقارِبةً مسائل إنسانية لا حدود ترابية أو لغوية لصلاحيّتها.
الشكر إذن عميق لياسين الحاج صالح على كرم نصوصه الثاقبة،
والامتنان موصول لسعاد لعبيز على صداقة الكاتب وقضاياه وعلى توفير هذه النصوص
بالفرنسية بين أيدينا، والأمل كل الأمل بتحرّر سميرة ورزان ووائل وناظم ومئات
الألوف غيرهم من السجن والإخفاء ومن المجهول الرهيب...
زياد ماجد