تتردّد في السجالات السياسية والإعلامية المحمومة في فرنسا منذ سنواتٍ مقولاتٌ وعبارات مهجوسة بأسئلة الهوية والاندماج والهجرة وما يُسمّى بالثقافة "الانفصالية" وبالقيم المناقضة لقيم الجمهورية والعلمنة، التي يزعمُ بعض المسؤولين وكثرة من الحزبيّين من الموالين أو المعارضين أنها سمات جماعات واسعة من المسلمين الفرنسيين أو المقيمين في فرنسا.
وإذ يُعطف على السجالات هذه أو يُبنى على تبعاتها اتّهام أمنيّ يربط الإرهاب بالسمات المذكورة كلّ ما وقع اعتداء منظّم (كما حصل بعد المقتلة الإرهابية التي استهدفت صحافيي مجلّة "شارلي إبدو") أو عمل همجيّ فردي (كما حصل عند قتل مدرّس التاريخ صامويل باتي ومصلّيتين في كنيسة)، يجري في الوقت نفسه ابتزاز رافضي العنصرية والتنميط أو الباحثين عن جذور اجتماعية وبسيكولوجية واقتصادية لتفسير السلوكيّات المأزومة، انعزاليةً كانت أو إجرامية قاتلة، عبر اتّهامهم بالسعي لتبرير "الإرهاب"، أو إطلاق مسمّيات ضدّهم لحبسهم فيها. ومن بين هذه المسمّيات، برز مؤخراً مسمّى "الإسلامو-غوشيست" أو "اليساروي الإسلاموي"، أو اليساري المدافع عن المسلمين (والإسلاميين)، الذي أطلقه وزير التربية ومعه سياسيّون وإعلاميّون وبضعة أكاديميين، على المثقّفين وعلى الصروح الجامعية الفرنسية التي تحوّلت كلّياتُ العلوم الاجتماعية والآداب المقارنة فيها، بحسبهم، الى معاقل لمناهج "مستوردة" من الثقافة الأنكلوساكسونية حيث التركيز على دراسات العرق والتعدد الثقافي "بات دافعاً لكراهية البيض". أكثر من ذلك، ذهب وزير التربية ومناصروه الى حدّ المطالبة برقابة على الدراسات "البوست-كولونيالية" بوصفها تحريضاً على ماضي فرنسا الاستعماري بما يعزّز التطرّف الإسلامي كما قالوا ويبرّر "التوحّش" في بعض ضواحي المدن (والعبارة لوزير الداخلية الفرنسي) حيث يصطدم دورياً شبّانٌ من أصول مهاجرة (مغاربية وأفريقية بخاصة) بعناصر من الشرطة والدرك.
الإسلامو-غوشيست الفرنسي وملامحه
تحيلنا حملة وزير التربية (ومعه وزير الداخلية وشخصيات من المنتمين بأكثرهم الى اليمين واليمين المتطرّف) على من أسموهم "الإسلامو-غوشيست" الى أمرين.
الأول يرتبط بما يمثّله نموذج المثقفين الفرنسيين
المناهضين للعنصرية وللتبسيط وللإسقاطات الثقافوية على الظواهر المركّبة، بما فيها
ظاهرة الإسلام السياسي وإشكالياتها الراهنة، من مواقف تستدعي ابتزازهم أو ترداد
مقولات يخالها مطلقوها تخويفية لهم أو تخوينية.
والأمر الثاني هو ما يثيره مسمّى "الإسلامو-غوشيست"
من تذكير بمسمّى آخر عرفته فرنسا في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي هو "الجُدِيو-بولشفيك"،
أو البلشفي اليهودي، أي الشيوعي اليهودي أو أحياناً المدافع عن اليهود.
في الأمر الأول، يُفيد التوقف عند أسباب النعت "الاتهامي" هذا. فالمستهدَفون به، هم بأكثريّتهم، لا سيّما في الوسط الأكاديمي وفي بعض الأوساط الصحفية اليسارية، يدرّسون ويكتبون حول أزمات فرنسا وحول الهويات المركّبة والمتبدّلة فيها وفي العالم. وهم مدافعون عن ضحايا التمييز العرقي والتهميش الاجتماعي وعنف الشرطة وإجراءاتها. كما أنهم حريصون على الفصل الدائم بين العلمنة كقيمة متّصلة بالديمقراطية ورحابة الحرية وبين توظيفاتها كسلاح في مواجهة المسلمين المتديّنين، والمحجّبات منهم بخاصة، بذريعة مكافحة الأصولية. وهم بهذا المعنى يدعون لعدم التمترس خلف العلمنة المتشدّدة وتحويلها إيديولوجيا مكتفية بذاتها للنيل من أشخاص ذوي انتماء ديني محدّد بحجّة أمنية أو بحجج "دمج ثقافي" قسري طبقاً لقِيَم مجتزأة ومتقادمة. وهم الى ذلك دقيقون في التذكير بالفارق بين نقد الإسلام (والدين عامة) المشروع وفق القوانين الفرنسية وهجاء المسلمين (لأنهم مسلمون) المرذول قانونياً لكونه ضرباً من ضروب العنصرية، التي صار التسابق على تبنّي بعض مقولاتها مساقاً سياسياً إنتهازياً لكسب ودّ قاعدة اليمين المتطرّف الانتخابية. وكلّ هذا، معطوفاً على إمعان من نُعتوا بالـ"إسلامو-غوشيست" في قراءة التاريخ الكولونيالي الفرنسي وسياسات باريس تجاه مستعمراتها السابقة وتأثيراتها في السياسة والاجتماع والاقتصاد اليوم والتموضع الأخلاقي والحقوقي تجاهها.
أما في الأمر الثاني، فيستعيد مصطلح الـ"إسلامو-غوشيت" تقليداً مشيناً ظهر في أوساط اليمين القومي المعادي للسامية قبل قرن كامل من الزمن، حين أُطلق على سياسيّين وأكاديميين يساريّين في فرنسا (وأوروبا) مسمّى الـ"جُدِيو-بولشفيك" للتحريض المضاعف عليهم لكونهم يهوداً وشيوعيين أو مدافعين عن اليهود والشيوعيين أو رافضين لثقافة العداء للسامية التي ساهمت في تأجيجها أحزاب وتيارات فكرية ودوائر كنسية. وكان في مصطلحهم يومها غرفٌ في نظريات المؤامرة التي اتّهمت اليهود بالوقوف خلف الشيوعية، تماماً كما اتّهمتهم قبلها بالوقوف خلف الرأسمالية، وبالسعي الدائم للسيطرة والتحكّم بمصائر "المواطنين".
ولعلّ تصوير المسلمين على نحو لا يختلف كثيراً عن تصوير
اليهود عشية الحرب العالمية الثانية وخلالها يكمّل هذا التذكير
"الإصطلاحي"، ولو في سياق مختلف اليوم وغير مقبل على المآلات إياها التي
عرفتها أوروبا قبل مئة عام. فالتعميم واعتماد الانتماء الديني بالولادة أو الإيمان
العقائدي على اعتباره المشترك الوحيد أو شبه الوحيد بين المعنيين، بمعزل عن ثقافاتهم
وخياراتهم وطبقاتهم وأصولهم ومهنهم، وإسقاطه عليهم بوصفهم جماعة متراصّة يتماثل
"أعضاؤها" قائمٌ في الحالين. والتنميطات والإحالات في الشكل الى القرود
والأفاعي والأرانب، وفي المضمون الى السعي الدائم للكسب والتآمر واستغلال المال
العام (بخلاً ومراكمة ثرواتٍ ونفوذاً في الحالة اليهودية، وكذباً وباطنيةً وكثرة
تناسلٍ للاستفادة من التقديمات الاجتماعية في الحالة المسلمة) تكرّس ماهية
العنصرية وجوهرها ولو تبدّل ضحاياها، أو تداخلت صورهم وتنافروا وأسقطوا بدورهم
التنميطات بعضهم على البعض الآخر.
مأزق العنصريّين وهواجس الديموغرافيا والتنوّع
يحملنا كلّ ما ورد الى الحديث عن المأزق الذي يتخبّط فيه الخطاب العنصري في فرنسا جاراً إليه الخطاب العام في البلاد. وتخبّطه هذا، أو انعدام أفقه ولجوؤه الى التكرار والاجترار، لا يعني أبداً أن لا أزمة فعليةً تُصيب شريحة من المسلمين الفرنسيين أو المقيمين في فرنسا لجهة الخيارات الثقافية والتطرّف وقمع النساء والانعزال، واللجوء في بعض الحالات الى مسلكيّات عنيفة ترتبط بالرموز أو بالكرامات المجروحة. فالعنف دفاعاً عن قداسة نبيّ الإسلام محمد يستهوي جمهوراً يخالُ في الثأر له أو منع التعرّض لمقامه ذوداً عن تاريخ وعزّة وعلوّ شأن جماعي مفقود اليوم بقدر ما هو مُشتهى. والاعتداء على أفراد أو إشهار عنف مشهديّ صار بحث مضطربين نفسياً عن انتحارٍ ينحر "كُفّاراً" ويشتري بنحرِهم موطئ قدم في "جنّة الشهداء" المتخيّلة، مخلّفاً صورة بطولةٍ موهومة يقتدي المذلولون في واقعهم "الأرضي" بها. على أن هذا بمجمله، يبقى حالات إجرامية شاذة، ولو وجدت من يحتفي بها إذ يخالها تعوّض عن عجزه وضعفه وهوانه. الحالات المسلمة الفرنسية العامة، أو أحوال القسم الأكبر من المسلمين، متديّنين وغير متديّنين، تبقى كأحوال عموم الفرنسيين، مرتبطة بطبقاتهم الاجتماعية وميولهم السياسية ومستويات تحصيلهم العلمي وأماكن إقامتهم، وأحياناً أصولهم العرقية. وهذا ما لا يريد القبول به دُعاة التعميم والتحريض والخصوصيات الصارمة، الباحثون عن التخويف الدائم من الإسلام، المتفاخر بعضهم بإسلاموفوبياته، أو برُهاب الإسلام، ذي القابلية على التوظيف والتحريض السياسي. فلهذا الرهاب تماس مباشر مع قضايا الهجرة والبطالة والأزمات الاقتصادية وموازنات العون الاجتماعي والتربية والسكن البلدي وغيرها ممّا يدّعي اليمين المتطرّف (ويجرّ معه اليمين التقليدي وبعض الوسط) تَسبُّب المهاجرين بتضخّمها. وهو إذ يردف عليها قضية الحجاب والشعارات الدينية يُدرك أنه يضع اليسار في موضع غير مريح، وهو المدافع عن العلمنة ومساواة النساء والرجال، فيفرض على بعض شخصياته وتيّاراته نقاشات وسجالات تكرّس الصور النمطية وتوسّع حقول "الإسلاموفوبيا" وتبتزّ الرافضين باتّهامات وتصنيفات تُعيدنا الى ما بدأنا به، أي "الإسلامو-غوشيست".
على أن مأزق العنصريّين رغم تقدّم خطابهم إذاً، خاصة عشية معظم الاستحقاقات الانتخابية والبحث عن التعبئة واستقطاب الناخبين، يبقى عميقاً. فهو قادر على تعديل بضعة قوانين وتضييق حرّيات وترهيب بعض الخصوم. لكنّه عاجز أمام الكثير من التشريعات والمؤسسات الوطنية والأوروبية، وعاجز أمام تراث ديمقراطي يحمي استقلالية القضاء وعمل الصحافة، وعاجز أيضاً أمام خصائص ديموغرافية تبدّلت، وأمام مستويات تعليم وانخراط مهني اكتسبها أبناء جيل جديد من الفرنسيين أو المقيمين المتحدّرين من أصول مهاجرة مسلمة. فهؤلاء باتوا، على عكس الكثيرين من أبناء وبنات الجيلين اللذين سبقاهما، ظاهرين اليوم في الأوساط الطبية والحقوقية والإعلامية والأكاديمية والمهنية. وإن كانت قلّة منهم تتبرّأ من جذورها أو تزايد مع العنصريّين في نبذ بيئات تحدّرت بالأصل منها، فإن القسم الأكبر منهم يقارع العنصريين ويفرض نفسه في أكثر من مجال. وقد يكون للهستيريا الإعلامية والسياسية في ما خصّ الإسلام منذ سنوات علاقة وثيقة بالتبدّل المجتمعي الحاصل وبالعجز عن لجمه، فيجري تحويل الأنظار عنه نحو الأقلية "المتطرفة" التي يحتاجها العنصريون لاستثارة المخاوف أو لإبقاء التوتّر قائماً.
بهذا، تستمرّ السجالات والمزايدات حول الإسلام والمسلمين
وحول الهوية والضواحي والعنف والاندماج في فرنسا. ومن المرجّح أن تتصاعد في
العامَين المقبلين مع الاستحقاق الانتخابي الرئاسي ثم التشريعي. وإذا كانت
استراتيجية الرئيس ماكرون تقوم على دفع الناخبين للمفاضلة بينه وبين مرشّحة اليمين
المتطرّف مارين لوبن في الدورة الثانية والحاسمة – في تكرار لما حصل العام 2017 –
فإن في خياراته ابتذالٌ قد يدفع قسماً لا يُستهان به من الفرنسيين للتمنّع عن
التصويت.
في موازاة ذلك، يؤمل ألا تخفّف سكاكينُ قتلةٍ وأعمالٌ
همجية جديدة من مآزق العنصريّين و"الإسلاموفوبيّين"، وأن يستمرّ
المتصدّون لهم في دفعهم نحو المزيد من القلق والتكرار الخطابي الأجوف والمراوحة السياسية
في دائرتهم المفرغة.
زياد ماجد
نصّ منشور في العدد 126 من مجلة الدراسات الفلسطينية، ربيع 2021