يستحوذ الغيابُ على حيّز واسع في وسائل التواصل
الاجتماعي التي يرتادها السوريّون. يفرض نفسه عليهم وعلى متابعيهم منذ سنوات. يمحو
الحدود أحياناً بين الخاص والعام، بين الحميميّ والمُباح. يستدعي غائبين ويجعلهم
مقيمين بين المتواصلين، مُزيلاً الالتباس بين ما هو افتراضي وواقعي. فكلّ افتراض يأفل
إن خطف الموت صديقاً انتمى لفترةٍ لِعالمِه، وكل فقدان خاص يستحيل مُصاباً عاماً
يتشارك في ألمه أصحابٌ واقعيون وافتراضيون.
صُوَر البروفايل
يعتمدُ كثرٌ من أصدقاء الفايسبوك السوريّين صوَراً لبروفايلاتهم،
هي صُوَر لغائبين اختفوا في عتمة سجون، أو قضوا في قصف أو اغتيال أو قتل تحت
التعذيب. يختارون الصُوَر بعناية، ففيها استحضار لأعزّاء، أو استذكار لِخسارة شخصية،
أو تضامن مع أحبّة مفجوعين، أو تمسّك بوجوه وأسماء ومشاريع حياة غير مكتملة.
بهذا تصبح الصُوَر بملامحها حضوراً للغياب لا يغيّر من حقيقته،
وإنما يكرّسه شريكاً في يوميّات ويُشهره عنواناً أو هويةً في مراسلات خاصة وإعلانات
و"بوستات" عامة. وبهذا أيضاً، تتحوّل صوَر الغائبين الى بديل لصوَر
الحاضرين، تُزيل ملامحهم من الذاكرة القصيرة، أو بالأحرى تستبدلها بملامِح أُخرى
تُرافق ذكر إسمائهم أو التفكير بهم، حتى بعد إقفال شاشة الكمبيوتر أو الهاتف
المفتوحة على صفحاتهم.
فلفترة مثلاً، كان كل استذكار للكاتب ياسين الحاج صالح
يستدعي صورة محمد عرب، الطبيب الحلبي المعتقل في سجون النظام الأسدي، الذي اتّخذ
ياسين صورته صورةً لبروفايله الشخصي في الفايسبوك لفترة طويلة، حتى كدتَ تنسى
ملامح ياسين نفسه إذ تسلّلت إليها ملامح عرب، قبل أن تختلط بِملامح جهاد محمد،
الصحافي المخطوف من قبل النظام الذي حلّ مكان عرب، ثم ملامح فراس الحاج صالح، أخ
ياسين الذي اختطفته داعش. أما منذ مدّة، فصار اسم ياسين مرادفاً لصورة سميرة
الخليل، زوجته المُغيّبة منذ اختطفها جيش الإسلام (وهي السجينة السياسية السابقة) مع
ناظم حمادي ووائل حمادة ورزان زيتونة في دوما قبل خمس سنوات. والأخيرة، رزان، كانت
لفترة طويلة قبل اختفائها تحضُر بِهيئة أحمد كوسى، الناشط الفلسطيني السوري الشهيد
كما مخيّمه اليرموك. كانت في حضورها تتّخذ ملامح أحمد الغائب، ولم تنتشر صُورها
الشخصية إلا بعد غيابها هِي وتَحوّل خصوصيتها المنكفئة سابقاً خلف صورة شاب شهيد الى
عمومية تضامن معها وحبّ لها وأمل بِعودتها.
وثمة صُوَر لغائبين لا تُعرف أصلاً، إن لم يحصل لقاءٌ أو
تواصل مباشر، وجوهُ المتّخذين إياها صوراً لبروفايلاتهم. ففريزة بندق تبدو أحياناً
كمن يُناجي نفسه إذ تكتب الى زوجها ناصر، الشاعر المعتقل في سجون النظام، وهي الساكنة
صورتَه والمطلّة منها حصراً على عالم الافتراض. وزبيدة زوجة إسماعيل الحامض،
الطبيب المخطوف لدى داعش، وبناتهما يتّخذن صوره ويستحضرنه في يومياتٍ تسرد بعضاً
من قصص لجوئهن ونجاحهن الدراسي الفرنسي. هكذا، يبقى الأب الغائب شاهداً يُرِدنه
فخوراً بِهنّ وبالأخ الأصغر، تجمع صورته شمل عائلته وتتحوّل في غيابه القاسي الى
صورتها المشتركة.
أما فائق المير، المُغيّب في سجون النظام، فتحضر صورٌ
مختلفة له في بروفايلات أصدقائه الكثر. يردّ الواحد اختلافها وتعدّدها الى الحيوات
العديدة التي عاشها أبو علي، المناضل السياسي، تخفّياً أو سجناً أو ثورةً. يبقى
فائق حاضراً ونتخيّل ملامح وجهه وابتسامته إذ يكتب رسالتيه الأخيرتين قبل الاعتقال
لزوجته ورفيقته الصابرة أم علي، ولابنته المُنجبة طفلها الأول والمُجدّدة الحياة
ومعانيها.
الفقدان الشخصي
على أن صُوَر الغياب أحياناً، إذ تعلن استشهاداً أو موتاً
صادماً، تضاعف من الفجيعة وتبقيها مخيّمةً على الفايسبوك بأسره.
فابتسامات عمر عزيز ويحيى الشربجي وفاتن رجب، المُعذّبين
حتى الموت داخل سجون النظام، تُثير إذ تظهر القهر والغضب. وصورة ناجي الجرف،
المتحوّلة الصداقة معه من افتراضيه الى واقعية، تستحضر الأسى الشديد على مآل رجل
كان يستعدّ مع عائلته الصغيرة لمغادرة مكان مصرعه نحو منفىً ثان أكثر أماناً.
وصورة سيفو العكر، الملاقي حتفه في حادث سير في شمال سوريا الذي تهجّر إليه من
الغوطة الشرقية حيث كان يصارع التنّين والوحوش، تبعث الحزن والغيظ من ظلم لاحق
شاباً شهماً ومِقداماً كانت مراسلاته عفوية وآمنكَ كتاباتٍ أراد يوماً نشرها.
وبين هذا الموت وذاك، تموت فدوى سليمان ثم مي سكاف.
صديقتان افتراضيّتان ثم واقعيّتان. بعد الإقامة المشتركة في الفايسبوك أقامتا في
مدينتك، ولم يمحُ الحدود بين الافتراضي والواقعي، بين صوَر الغياب وحضوره المباشر،
سوى مشاركتك في تشييعهما الى مثواهما الأخير في باطن الأرض.
وأخيراً وليس آخراً يتحوّل اغتيال رائد فارس وحمود جنيد في
بلدتهما كفرنبل في إدلب برصاص غادر من "النصرة"، من خسارة عامة الى فقدان
شخصي. فلفارس وبلدته وأبنائها أثر في كلّ من تابع أخبار الثورة السورية أو زار
"الفايسبوك السوري"، إذ يصعب ألا تقع على صوَر لافتاتهم وعلى علامات النصر
التي رفعوها رغم تراكم الأهوال. ويصعب كذلك ألاّ تبتسم وأنت ترى روح السخرية تفيض
من شعاراتهم ومعها إرادة التحدّي والمثابرة. تزور صفحتيهما بعد الرحيل، تضغط على
زرّ "الماسنجر" وتُعيد قراءة مراسلات خاصة متفرّقة ومزاح ورسائل
اطمئنان، وتتيقّن أكثر من عنف الغياب وجَوره. ذلك أن هؤلاء جميعاً، مغيّبين في
سجونٍ أو قتلى، تركوا آثاراً فينا صارت أشبه بالندوب. خلّفوا على صفحاتهم وصفحات
ذويهم وأحبّتهم تفاصيل صغيرة تسلّلت الى يوميّاتنا. صارت مراسلاتهم أو "لايكاتهم"
أو تعليقاتهم أن لم يُقفل الغيابُ "حساباتهم" الفايسبوكية أو يطوي
صفحاتهم الافتراضية مؤقّتاً هدايا ثمينة، نُحافظ عليها كمن يُحافظ على تركةٍ أو
إثبات وجود لراحلين، أو كمن يحرس صداقة يأمل استكمالها إن فُتح سجنٌ على حياةٍ
كانت ما زالت – بِمعجزةٍ - معلّقةً داخل زمنه الثقيل.
الغياب السوري صار إذاً في ذاته حضوراً دائماً. حوّل
استعاراتٍ شعريةً الى حقيقة نعيشها. جعل من الافتراض واقعاً، ومن الواقع افتراضاً،
أو احتمالاً مؤجّلاً. يصعب أن نفتح "الفايسبوك" دون الوقوع عليه إذ
تُحييه رسالة أو ذكرى نُدعى لمشاركتها. اتّخذ أسماء علم وصوَراً تآلفنا مع
تفاصيلها.
وهو بهذا المعنى صار جزءاً من حياتنا، من أحاديثنا، من
هواجسنا وكوابيسنا. وصار أيضاً جرحاً لن نُشفى على الأرجح منه...
زياد ماجد
مقال منشور في الملحق الأسبوعي للقدس العربي