فاجأ الرئيس الأميركي دونالد ترامب إدارته ومعظم
المسؤولين في الولايات المتّحدة الأميركية وفي العالم بتغريدة أعلن فيها قراره سحب
قوات بلاده الخاصة المتمركزة في الشمال الشرقي السوري، في إطار ما يُعرف بـ"التحالف
الدولي لمكافحة الإرهاب".
والمفاجأة كمنت في توقيت الإعلان وشكله أكثر منها في
القرار نفسه. فترامب لم يبدُ مرّة مكترثاً بالشأن السوري. وهو، وإن عاب على سلفه
باراك أوباما انسحاباً مبكراً وغير موفّق من العراق، سبق وأعلن خلال حملته الانتخابية
ثم في مناسبتين في العامين الماضيين عن رغبته في سحب الجنود الأميركيّين (المقدّر
عددهم بألفي مقاتل) من سوريا، حتى قبل اكتمال "انتصارهم" وحلفائهم في
الميليشيات الكردية على تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، سبب تدخّلهم
المعلن في الصراع هناك صيف العام 2014.
لكن التوقيت الآن، بعد تصعيد الإدارة الأميركية سياسياً
واقتصادياً ضد طهران والانسحاب من الاتفاق النووي معها، وبعد تعيينها جيمس جيفري
مبعوثاً خاصاً لِسوريا، وبعد تصريحات لعدد من صقورها أكّدت على البقاء في المنطقة
الى حين التأكّد من انسحاب إيران وحلفائها منها، داهمت كُثراً ودفعت وزير الدفاع
الأميركي جيمس ماتيس الى الاستقالة، وأطلقت العديد من التكهّنات.
تركيا وأكراد سوريا
من هذه التكهّنات ما يرتبط بتوقيت الإعلان الترامبي بُعَيد
اتصال مباشر مع الرئيس التركي رجب طيّب إردوغان، الذي يحشد منذ فترة قواته ويهدّد
بالتدخّل ضد الميليشيات الكردية في منبج وشرق الفرات لإبعادها عن الحدود مع بلاده
وضرب مشروعها السياسي السيادي. وهذا قد يُفضي إن تحقّق الانسحاب إطلاقاً لِيد
تركيا في مناطق حمى فيها الأميركيون حلفاءهم الأكراد حتى الآن بعد أن عاونوهم
بآلاف الغارات الجويّة للتقدّم على حساب "داعش".
في المقلب الآخر، تبدو القوى الكردية عاريةً من كلّ غطاء
دولي حاسم ومضطرة لخيارَين كلاهما مرّ. الأول، مواجهة احتمالات الاجتياح التركي
والسعي لدى الأميركيين والروس والأوروبيين لإبقائه محصوراً في منبج وبعض النقاط
الحدودية. والثاني، التفاوض مع النظام السوري للتنسيق في مواجهة التوسّع التركي
إياه، والحصول على دعم روسي لهكذا تنسيق، بما يعني "الاستسلام" لشروط
الأسد وموسكو والتراجع عن معظم الطروحات الاستقلالية وفتح المناطق الشرقية
والشمالية الشرقية أمام جيش النظام وميليشياته (ومعها الميليشيات الشيعية الموالية
لطهران). وهذا كلّه غير مضمون للأكراد في أي حال، إذ أن أنقرة تفاوض أساساً مع كلّ
من روسيا وإيران كما مع الولايات المتحدة، ويمكن لها مقايضة بعض إدلب ببعض الشمال
الشرقي السوري إذا اضطرّت، أو حتى الاكتفاء بتفاهمات مع موسكو لدعم الخطط الروسية
للمرحلة المقبلة من دون الحاجة الى "تنازلات" كثيرة.
إيران وإسرائيل
من التكهّنات المطروحة أيضاً، ما يتعلّق بالمعادلة
الإيرانية – الإسرائيلية سورياً وتطوّرها، وما يُظهره قرار ترامب من تراجع للدور
الأميركي المباشر الملوَّح به سابقاً في مواجهة طهران داخل سوريا، مقابل عودة التصعيد
الإسرائيلي ضدّها واستئناف ضرب مواقعها ومواقع حلفائها (وهو ما تقلّص في الأشهر
الأخيرة بِطلب روسي). وإذا تأكّد ما تسرّب في الصحافة من أن نتنياهو كان المسؤول الأجنبي
الوحيد الذي أطلعه ترامب على قراره قبل تغريده، ففي الأمر ما يشير الى وعود بتغطية
واشنطن لهكذا عمليات تطمئن تل أبيب القلقة من التداعيات المحتملة للانسحاب
الأميركي على مسألة الانتشار الإيراني والنشاط الحزب-إلهي على مقربة من الجولان
المحتل.
روسيا كمستفيد أوّل
يبدو من كلّ ما ورد آنفاً أن روسيا ستكون الأكثر استفادة
من قرار الرئيس الأميركي. فهي ستحاول تكريس قيادتها للمسارات السياسية كما
للديناميات الميدانية السورية في غياب منافس دولي لها وفي لحظة انتقال مهمّة
الوساطة الأممية المترنّحة من ستافان دي مستورا (الذي لم يقترن اسمه بغير الفشل)
الى غير بيدرسون. وهي ستعمد على الأرجح الى تعزيز السيناريوهات التي تقسّم الأدوار
بين مختلف الأطراف الإقليمية (إيران وإسرائيل وتركيا) بما يبقيها جميعاً محتاجةً
الى "تحكيمها". ولا يُستبعد مثلاً أن تقبل موسكو بتوسيع أنقرة لرقعة
سيطرتها شمالاً وأن تعمد بالمقابل الى رعاية اتفاق بين النظام والقوى الكردية يجعل
باقي مناطق الشمال الشرقي والشرق بعهدتهما معاً مؤقتاً. كما لا يُستبعد أن تغضّ
النظر عن تصعيد إسرائيلي ضد إيران وحلفائها شرط بقائه محصوراً جغرافياً وعدم خروجه
عن السيطرة. أما طهران التي تركّز اهتمامها على الحدود العراقية السورية والسورية
اللبنانية وبعض المناطق المحيطة بدمشق ومطارها الدولي حيث تنتشر الميليشيات
الموالية لها في مدن وبلدات أُفرغت من سكّانها، فتدرك ضيق هوامشها وتكتفي راهناً
بما تسيطر عليه وبالرهان المعهود في استراتيجيتها على الوقت وعلى "ملل الخصوم
وتعبهم".
على أن كل ما ذُكِر يبقى بالطبع مشروطاً بتحوّل قرار ترامب
المُعلن الى إجراءات ميدانية سريعة. وهذا ما ليس مؤكّداً بعد لعدّة أسباب، منها
احتمالات طلب مستشاريه ومعهم المؤسسة العسكرية تأجيله أو تنفيذه على مراحل لا
تُخرج واشنطن تماماً من المعادلة. ومنها أنّ كثرة من حلفاء الولايات المتّحدة
التقليديّين في أوروبا (فرنسا وبريطانيا ولهما أيضاً قوات خاصة على الأرض ضمن
"التحالف الدولي") وفي المنطقة (إسرائيل والمملكة العربية السعودية) لا
يحبّذونه كلّ لأسبابه. ومنها أخيراً أن ترامب المحتاج الى إعلان "إنجاز"
ما اختار أن يسمّيه "انتصاراً على الإرهاب" في لحظة تعرّضه لضغط داخلي
نتيجة التحقيقات الخاصة بعلاقاته الروسية غير المشروعة، وبصدامه مع الديمقراطيين
(وبعض الجمهوريّين) حول تمويل الجدار على الحدود مع المكسيك، إنما يستطيع لاحقاً
اعتبار لوجستيات الانسحاب الذي أعلنه وجدوله الزمني مسائل تقرّرها إدارة القوات
الأميركية، بما يمنح واشنطن المزيد من الوقت لإتمام اتفاقات وتفادي سيناريوهات تزيد
من إرباكها ومن تهاوي سطوتها دولياً.
وهذا كلّه يعني أننا ندخل في مرحلة جديدة من مراحل الصراع
الطويل في سوريا وعليها، من دون أفق واضح أو معطيات ديبلوماسية وميدانية يمكن أن
تحسم الأمور في المدى المنظور.
زياد ماجد
مقال منشور في الملحق الأسبوعي لصحيفة "القدس العربي"